على نظام الحمدين أن يعلم أن الحل لا يكون بتبديد أموال الشعب القطري في واشنطن أو لندن أو باريس
تداولت وسائل الإعلام القطرية، أمس، خبرا قد يبدو للوهلة الأولى أنه بلا أهمية أو قيمة حقيقية، لكنه يحمل في طياته الكثير من الدلالات والعظيم من القرائن على النهج الخبيث الذي دأب عليه تنظيم الحمدين في التعاطي مع الأزمة الخانقة التي تعيشها بلاده جراء المقاطعة العربية لها، فبدلا من الاستجابة للمطالب المشروعة للدول الأربعة والعودة إلى البيت الخليجي والعربي، انتهجت الدوحة طريقا خلفيا ملتويا يتمثل في تكرار المحاولات اليائسة لاستمالة الدول الكبرى والمنظمات الدولية الفاعلة والتأثير على مواقفها من الأزمة ومحاولة دفعها للاصطفاف إلى جانبها وتبني مظلوميتها، وآخر هذه المحاولات البائسة جاءت أمس على لسان الأمين العام لوزارة الخارجية القطرية أحمد الحمادي، الذي أعلن أن بلاده ستفتتح قريبا "بيت الأمم المتحدة" في الدوحة، والذي يضم مكاتب تمثيلية لعدد من أجهزة الأمم المتحدة.
على نظام الحمدين أن يعلم أن الحل لا يكون بتبديد أموال الشعب القطري في واشنطن أو لندن أو باريس، ولا يكون باستضافة منظمات لا تؤمن برسالتها ولا تحترم دورها، ولا بالارتماء في أحضان أعداء الأمة، بل بإعادة ضبط بوصلته ليولي وجهه نحو محيطه العربي والخليجي
وأوضح أن ذلك يأتي "في إطار سعي دولة قطر إلى توفير الإمكانيات اللازمة لاستضافة مكاتب وبعثات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وتوفير المتطلبات اللازمة لتمكينها من ممارسة مهامها وأنشطتها على أكمل وجه"، المضحك في تصريحات المسؤول القطري هو تأكيده على أن استضافة بلاده لمكتب للأمم المتحدة "سينعكس على نحو إيجابي على قدرتها في تنفيذ أنشطتها وبرامجها الإقليمية والعالمية"، هنا تحاول قطر أن تظهر في صورة الدولة الحريصة على احترام منظمة دولية مهمة وتمكينها من أداء دورها وتسهيل مهمتها، وهي صورة تبدو مضللة وخادعة ومناقضة لواقع يقول صراحة إن قطر دولة لا تفي بالتزاماتها ولا يمكن الوثوق بتعهداتها الدولية، ولا تحترم ما تمليه عليها عضويتها في المنظمات الدولية.
ولعل هذا ما عكسته وقائع الأيام القليلة الماضية التي حاولت فيها الدوحة تقويض منظمتين فاعلتين، إحداهما على المستوى الدولي والأخرى على المستوى الإقليمي، فعلى مستوى المنظمات الدولية أصبحت قطر أول دولة شرق أوسطية تنسحب من منظمة "أوبك"، والإشكالية هنا لم تتعلق بالانسحاب في حد ذاته، ولكنها تتمثل في طريقة الانسحاب من هذه المنظمة المهمة والفاعلة والتي جاءت من طرف واحد وبشكل مفاجئ، ودون التنسيق مع بقية الأعضاء أو حتى إخطارهم، وهو ما يعكس سوء نية وربما محاولة لإرباك هذا التجمع الدولي المهم وتقويض جهوده في ضبط أسعار النفط، وهو أمر أكدته حملة التشويه السياسية والإعلامية لهذه المنظمة عقب قرار الانسحاب مباشرة، والتشكيك في دورها وشرعيتها وآليات عملها، وعلى المستوى الإقليمي لم تكل قطر ولم تمل بعد ولم توقف محاولاتها الدؤوبة لتمزيق مجلس التعاون الخليجي وتقويض دوره وتشتيت جهوده وعرقلة عمله وإيقاف مسيرته وإنهاء دوره الذي لم يعد يتسع لطموحاتها ولا يتماشى مع تحالفاتها المشبوهة، وصرف أنظاره عن المخاطر الحقيقية التي تهدد دوله وفي قلبها المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، وآخر هذه المحاولات كانت محاولتها اليائسة لإفشال قمته الأخيرة في الرياض عبر مستوى تمثيل هو الأدنى في تاريخه.
إذن سيكون مثيرا للسخرية أن تزعم قطر أنها حريصة على عمل المنظمات الدولية وعلى تمكينها من أداء رسالتها وعلى توفير المناخ المناسب لها، فوقائع الأمس القريب تثبت عكس ذلك، ولا يمكن للدوحة أن تزعم أن سعيها لاستضافة مقرات ومكاتب للمنظمة الدولية الأهم كان منزها عن الهوى أو موقفا مبدئيا بلا ثمن منتظر، فالنوايا القطرية السيئة فضحت نفسها بنفسها سريعا، فالحمادي استغل المناسبة التي أعلن فيها استضافة بلاده لـ"بيت الأمم المتحدة" لكي يكيل الاتهامات الزائفة للدول الأربعة ويحملها مسؤولية ما آل إليه حال المواطنين القطريين جراء المقاطعة، رابطا دون أن يشعر بين رغبة بلاده في استضافة مكتب للمنظمة الدولية وبين الأزمة الخليجية، بقوله إن بلاده "ستواصل جهودها البناءة من خلال آليات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الصلة لوقف ممارسات الدول الأربعة ضد المواطنين القطريين والمقيمين في الدولة، ومحاسبة جميع المسؤولين عنها وإنصاف الضحايا والمتضررين".
إذن الهدف واضح وصريح ومعلن، فالاستضافة ليست بريئة ولا تخلو من غرض، وتصريحات الحمادي هنا مجرد حلقة جديدة من مسلسل استغلال أموال ومقدرات الشعب القطري للتأثير على مواقف الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي، فلا يمكن فهم الدوافع القطرية في استضافة مقار ومكاتب لمنظمات دولية عما تعيشه الدوحة من أزمة جراء المقاطعة الخليجية والعربية، ومحاولتها المتكررة للالتفاف حول المطالب العادلة للدول الأربعة الداعية لمكافحة الإرهاب، ورغبتها في التأثير على مواقف هذه المنظمات كما حاولت من قبل التأثير على مواقف دول، وهو سلوك وإن بدا مستهجنا إلا أنه ليس بغريب على النظام القطري الذي لا يتورع عن فعل أي شيء قد يرى أنه يحقق مصلحته أو يخدم مصالحه مهما بدا لا أخلاقيا أو مستهجنا أو محرما أو مجرما، فهو نظام لا يجيد حصد المكاسب إلا بشراء الذمم والمواقف، فعلتها الدوحة من قبل وتفعلها مجددا، لجأت بالأمس البعيد إلى "عمليات سوداء" لاستضافة كأس العالم 2022 عبر اللجوء إلى صفقات سرية لتقويض ملفات الدول المنافسة لها على شرف الاستضافة، وذلك بنشر دعاية مضللة تستهدف ملفات الولايات المتحدة وأستراليا، وحاولت إفساد مسؤولين سياسيين وأكاديميين ومشرعين في منظومات لا تقبل بالفساد وتلفظ الفاسدين، وحاولت دفع بعضهم للعمل ضد المصلحة الوطنية لبلادهم، وحاولت إفساد أكبر المؤسسات الأمريكية ودفعها للعمل ضد مصلحة بلادها، ونالت بذلك شرفا لم تكن لتناله لولا فسادها وشراؤها لذمم كبار المسؤولين ورِشاها التي وصلت إلى رئيس دولة بحجم فرنسا، وبالأمس القريب حاولت وما تزال استمالة الموقف الأمريكي للاصطفاف بجانبها ضد أشقائها، وهنا يمكن تفسير قرارات غزل قطرية كثيرة تجاه الإدارة الأمريكية لن يكون آخرها قرار الانسحاب المفاجئ من أوبك قبل أيام، ولم يكن أولها إعلان الدوحة في يوليو الماضي أنها ستنفق 1.8 مليار دولار من أموال الشعب القطري لتجديد قاعدة العديد الأمريكية، وهو أمر انتبهت إليه دوائر الفكر الأمريكية، ما دفع مجلة أكاديمية عريقة مثل "فورين بوليسي" أن توجه تحذيرا جديا لإدارة ترامب في أغسطس الماضي من ترددها في دعم المقاطعة العربية لقطر، متهمة النظام القطري بتسليم خزائن الدولة لتنظيم الإخوان الذي يشكل تهديدا إرهابيا لدول المنطقة وللولايات المتحدة الأمريكية، وشرحت العلاقات الطويلة بين الإخوان ونظام الحمدين، ووصفتها بأنها إرث حمد بن خليفة، كما شرحت علاقات قطر الاستراتيجية مع النظام الإيراني ودفعها ما يقارب مليار دولار كفدية إلى الحرس الثوري ومليشيات حزب الله في العراق، في واحدة من أضخم عمليات دعم الإرهاب في العالم، وتصف المجلة، تراجع إدارة ترامب عن الضغوط على النظام القطري الممول الرئيسي للتنظيمات الإرهابية في العالم، بأنه "خطأ استراتيجي كبير وخطير جدا"، ووجهت المجلة، عبر التقرير المنشور على صفحاتها، دعوة صريحة إلى الإدارة الأمريكية للانضمام إلى التحالف العربي في المنطقة ضد قطر بالقول: "لذا من المهم أن نجعل قطر تنهي دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، وربما أكثر أهمية من جعل قطر أن تنأى بنفسها عن إيران. ومع ذلك، لا يمكن القيام بذلك دون ضغوط جدية من جيران البلد، وهو ما فعلته السعودية وجيرانها وقادت حظرا شاملا على إمارة قطر".
ربما أدركت هذه المجلة المؤثرة في دوائر صنع القرار الأمريكي والتي صدرت قبل نحو 49 عاما خطورة اللعبة القطرية ورصدت محاولات شراء المواقف، لذا كان تحذيرها صريحا وواضحا، وهنا يجب أن يلتفت المجتمع الدولي بدوره لخطورة ما تفعله قطر وألا يقف مكتوف الأيدي تجاه سلوكها الذي يتدثر بعباءة أخلاقية، لكنها عباءة شفافة تظهر بسهولة ما تحاول أن تخفيه.
وبالنسبة للنظام القطري، فها هو مرة أخرى يخطئ العنوان ويسيء اختيار الوسيلة، ونقولها ثانية.. لو كان لدى هذا النظام قلة من عقل ويسر من الرشد ونذر بسيط من الحكمة لأدرك أن حل الأزمة التي تسبب فيها وإنهاء المقاطعة التي أربكته وكشفت مدى هشاشته لا يكون بتبديد أموال الشعب القطري في واشنطن أو لندن أو باريس، ولا يكون باستضافة منظمات لا تؤمن برسالتها ولا تحترم دورها، ولا بالارتماء في أحضان أعداء الأمة، بل بإعادة ضبط بوصلته ليولي وجهه نحو محيطه العربي والخليجي في الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة، والاستجابة للمطالب العادلة التي انطلقت من العواصم الأربع، فحل الأزمة كما قلنا مرارا وتكرارا في الرياض وليس في مكان آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة