الأوهام القطرية بلغت بالعطية حد أنها جعلته يتخيل قبول حلف «الناتو» لقطر عضوا فاعلا وعاملا فيه.
لا يزال الطريق ضائعا من الأقدام القطرية، والرؤية غائبة عن أعينها في المنظور البعيد، وغائمة على المدى القصير، تسعى في سياق الأوهام، تهرب إلى الأمام تارة، وتصعد إلى الهاوية مرة أخرى.
عام كامل قد انقضى منذ مقاطعة النظام في قطر؛ علّه يرتدع ويعود إلى رشده، ليتوقف عن احتضان الإرهاب ورعاية الإرهابيين، وليكف تدخلاته غير المشروعة في شؤون الغير، عطفا على إعادة تصويب مسارات علاقاته الخارجية، وتصحيح اختياراته الدبلوماسية.
ما الذي فات إدراك المسؤول القطري وهو يمضي وراء السراب، بعد أن خيل إليه أن يوما يمكن أن يجيء تضحى فيه إمارته ذات الأحد عشر ألف كيلومتر مربع، دولة كاملة العضوية في حلف شمال الأطلسي؟.
غير أن قطر النظام تجيد القراءة في المعكوس، ولهذا يدهش المرء من متابعة ردود فعلها طوال الفترة الماضية، وبالقدر نفسه تصيبه سياسات بعض الدول بالاندهاش، وبخاصة التي تتشدق بالحرية والديمقراطية، وتصدع الأدمغة بدعوات الحفاظ على حقوق الإنسان، وتنادي ليل نهار بحتمية محاربة الإرهاب.
يبين لنا تصريح وزير الدولة لشؤون الدفاع القطري خالد العطية، الأيام القليلة الماضية، حالة الزيف والازدواج الأخلاقي عند البعض الذين لا همّ لهم إلا ذهب المعز، أما المبادئ والأخلاقيات، والقيم الإنسانية وإحقاق الحقوق، فلا موقع أو موضع لها في سياقات الأنانية غير المستنيرة، والرأسمالية الأوروبية المتوحشة بدورها.
تحمل التصريحات أنباء قيام قطر بإنشاء منظومة جوية لحماية المجال الجوي القطري، عبارة عن سرب من طائرات «التايفون» البريطانية، ليقوم بواجب الدفاع.
الأسئلة التي تتسارع داخل العقل، تبدأ من عند السبب وراء إصرار النظام القطري على تعميق مواقفه العدائية تجاه دول المنطقة، من خلال استدعاء أطراف أجنبية عرفت يوما بأنها المحتل للأرض والعقول في منطقة الخليج العربي. وتمضي في طريق الحيرة من موقف بريطانيا، وهي التي تدرك حقيقة النظام القطري، والأكثر مدعاة للعجب هو أن تربط اسمها ورسمها ووسمها العسكري بقطر.
لسنا مندهشين من مثل هذه المواقف تجاه قطر خاصة، أو ناحية العلاقات مع جماعات الإسلام السياسي؛ فهي منشورة في الصحف السيارة والطيارة، دون أدنى التفاتة لما تمثله من مخاطر على أمن العالم العربي واستقراره.
الأوهام القطرية بلغت بالعطية حد أنها جعلته يتخيل قبول حلف «الناتو» لقطر عضوا فاعلا وعاملا فيه، فقد أشار إلى ما سماه «طموح قطر الاستراتيجي على الأمد الطويل، في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي».
عن أي طموح غير واقعي وغير خلاق يتحدث الوزير القطري؟ وهل أدمنت القيادة القطرية تقديم أراضيها كخلفية جغرافية للقوى الكبرى، ظنا منها أن هذا هو السبيل الوحيد لحمايتها من الآخرين؟
وزير الدفاع القطري لا يواري أو يداري نوايا بلاده في استضافة قطر لإحدى وحدات «الناتو» أو أحد مراكزه المتخصصة.
كارثة الوهم تتمثل في أنه اضطراب عام في التفكير، ويتسم باعتقاد ثابت خاطئ لا يتزعزع، حتى لو اعتقد الآخرون من حوله خلاف ذلك، أو برزت له أدلة دامغة تنفيه.
في هذا السياق يفهم المرء دلالة تصريحات الوزير القطري عن تقدير «الناتو» للدور الذي تقوم به قطر في محاربة الإرهاب ومكافحة تمويله، أما ثالثة الأثافي فتتمثل في أوهام إشادة «الناتو» بالدور الإيجابي القطري في الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها.
لم يطل انتظار الرد من جانب «الناتو»، الذي جاء سريعا جدا، وفي اليوم نفسه، لينخس العقول القطرية بمناخس تدعوها للاستفاقة من غرور الأوهام؛ إذ صرح مسؤول في الحلف الذي يضم 29 بلدا، بأنه بناء على «البند العاشر لمعاهدة واشنطن، فإن الدول الأوروبية هي الوحيدة التي يمكنها الانضمام إلى (الناتو)».
ما الذي فات إدراك المسؤول القطري وهو يمضي وراء السراب، بعد أن خيل إليه أن يوما يمكن أن يجيء تضحى فيه إمارته ذات الأحد عشر ألف كيلومتر مربع، دولة كاملة العضوية في حلف شمال الأطلسي؟
يمكن القطع بأن الرؤوس التي تدير «الناتو» تعلم تمام العلم الأبعاد الحقيقية لفكرة الدولة ذات السيادة بالمفهوم الويستفالي (1648)، أي الدولة بحكم المساحة الجغرافية، والحضور الديموغرافي، وتفاعل البشر مع الحجر، عبر التاريخ، لينصهر الخليط في فكرة الأمة الحقيقية والدولة الفاعلة، وهي مواصفات لا توجد لدى قطر بأي شكل من الأشكال، وفي أفضل الأحوال لا تتجاوز حقيقة المشهد جعلها رقعة لوجستية للأعمال العسكرية لحلف الكبار، لا سيما مع الاستعداد القطري الدائم لإنفاق كل ما في الخزينة القطرية على المنشآت العسكرية الأجنبية، والدليل على صدقية ما نقول به، ما عرضه حكام قطر مؤخرا على الأمريكيين، من تخصيص خمسة مليارات دولار لتطوير منشآت قاعدتي العديد والسيلية.
خلال العام المنصرم قدمت قطر قرابين الطاعة والولاء على المذبحين الأوروبي والأمريكي؛ أنفقت المليارات من أجل شراء الرأي العام، واستمالة الإعلام، لا سيما في نيويورك وواشنطن.
أجهدت الدوحة ذاتها في محاولات لتكوين جماعات ضغط من الأمريكيين الرسميين والحزبيين ومن المستقلين، من كل الأعراق والأديان، ظنا أنهم سيضحون عند لحظة بعينها درعا وسيفا لقطر، وفات هؤلاء أيضا أن الولاءات لا تباع ولا تشترى، وأن جل هدف الوسطاء الاغتراف من خزائن الغاز دون أي خوف من سيفه؛ إذ لا سيف له من الأصل.
قبل أيام قليلة، كانت الأبواق الإعلامية التي تنفق عليها قطر ملايين الدولارات حول العالم، تتحدث بلوعة وأسى عن الفشل المتمثل في اللغة المتلونة التي يستخدمها الغرب في مخاطبة الدول الأربع المقاطعة، بمعنى أن مراكز صناعة القرار السياسي في واشنطن وبروكسل لا تمارس الضغط الكافي لجعل المقاطعين ينهون مقاطعتهم؛ ما يعني إخفاق المساعي القطرية في الفرار من القدر المحتوم.
الخلاصة.. الهروب إلى أحضان «الناتو» لا يفيد.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة