لا تحتمل قطر فكرة أن يفوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية، إذ سيكون ذلك جحيما مستعرا بالنسبة لسياساتها وتحالفاتها.
لا تزال قطر تمضي في الاتجاه المعاكس للرياح، معتقدة جل الاعتقاد أن الأموال هي كلمة السر، أو أنها بالقدر نفسه حجر الفلاسفة، الذي يمكنها فعل أي شيء وكل شيء، متى تريد وكيفما تشاء.
لا دالة لقطر على قراءة التاريخ الأمريكي، ذلك أن انتخاب الرئيس وإن لعبت حملات التمويل فيه دورا مهما، فإنه في أول الأمر وآخره يبقى تحت إرادة شعب، وهو تكليف أكثر تشريفا منه بقيادة أمة لا تستجيب لضغوطات الأموال الخارجية
لا تريد القيادة القطرية أن تدرك كيف أن العالم بات رقعة شطرنج إدراكية صغيرة، وأن تحركات اللاعبين واضحة للقاصي والداني، واستراتيجيات التشارع والتنازع مكشوفة، ولهذا فإنه يمكنها أن تخدع البعض لبعض الوقت، لكنها لا تستطيع خداع الكل طوال الوقت.
فصول المأساة القطرية تتجلى يوما تلو الآخر، وآخرها ما بدأت وسائل الإعلام الأمريكية الحديث عنه، والمتصل بالدور المخرب الذي تمارسه قطر في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020.
ما أبعاد هذا الدور وهل موجه بنوع خاص ضد الرئيس ترامب، وإن كان ذلك كذلك ترى ما السبب ولماذا؟
يمكن القطع بأن سنوات ترامب الثلاث في البيت الأبيض لم تكن بردا وسلاما على الدوحة، ذلك أن توجهات دونالد ترامب مغايرة شكلا وموضوعا لسيرة ومسيرة ثماني سنوات لباراك أوباما في البيت الأبيض، تماهى فيها إلى أبعد حد ومد مع قطر، وصمت أمام دعمها لتيارات الإسلام السياسي حول العالم، وفتح لها مسارب وثغرات في البيت الأبيض والداخل الأمريكي بشكل غير مسبوق.
لقد وجد القطريون في سنوات ترامب فرصة ذهبية لمد أطرافهم إلى داخل العديد من المؤسسات الهامة لا سيما الخارجية، حيث لا يزال أتباعهم يشكلون عقبة في طريق وضوح الحقيقة لساكن البيت الأبيض في بعض الأوقات، وإن لم تتمكن قطر وحتى الساعة من الاقتراب من الحصون العالية لوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، حيث يدرك الجنرالات الكبار أبعاد الفقاعة القطرية، ولهذا لا ينخدعون بحفنة دولارات.
غير أنه مع الأسف الشديد هناك من ابتلع الطعم القطري، لا سيما من أصحاب مراكز الدراسات، ومن غير المصدق أن يُطالع ما نشرته صحيفة "ويكلي بليتز" الأمريكية مؤخرا، عن تلقي مركز "بروكنجز" للدراسات والأبحاث عشرات الملايين من الدوحة، والسماح لهم بفتح مكتب للمركز في العاصمة القطرية عينها، هذا إلى جانب العديد من المراكز الأخرى التي يجهل العالم أنها تمول من قبل قطر.
ولعل الكارثة الأكبر التي سعت قطر في سبيلها طوال العقد الماضي موصولة بالإعلام، سواء كان ذلك من خلال تسخير محللين يتلقون رواتب مباشرة من قطر، ويظهرون على الشاشات الأمريكية الكبرى لقلب الباطل وإظهاره حقا والعكس- ما تنبه له الأمريكيون مؤخرا- وفي مقدمتهم ابن الرئيس ترامب الذي فضح الزيف القطري مرة واحدة عبر صفحات النيويورك تايمز، أو من خلال شبكة قنوات الجزيرة، التي بدأت الدوائر تدور من حولها في الأيام والأسابيع الأخيرة .
أظهر دونالد ترامب وعيا كبيرا تجاه مؤامرات قطر، وقد وجه لها بشكل متكرر رسائل التحذير والوعيد والتهديد، المعلن تارة والمبطن تارة أخرى، وهي لا تملك في مواجهة غضبته سوى أن تبسط المزيد من الأموال تحت قدميه، وتغريه بتوسيع القواعد الأمريكية على أراضيها على نفقتها الخاصة، ومن غير أن تكلف الخزانة الأمريكية بنسا واحدا.
يفوت قطر وهي تتعاطي مع سيد البيت الأبيض أن الرجل يجلس على قمة العالم، حيث لا تزال واشنطن روما العصر تملأ الدنيا وتشغل الناس، ومن هذا المنطلق لا يمكن إغراؤها نظراً لمواردها الوفيرة، التي تستطيع سد منافذ أي دولة يرغب فيها، لا سيما في الوقت الذي تتشارك فيه هذه الدولة مع الجار الإرهابي الأكبر.
لا تحتمل قطر فكرة أن يفوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية، إذ سيكون ذلك جحيما مستعرا بالنسبة لسياساتها وتحالفاتها، فالرجل هو من يضيق الخناق على رقبة "إيران الشريفة"، كما وصفها المندوب القطري في الجامعة العربية ذات مرة، وهو تضييق يصل إلى حد الاختناق، ويغلق أمامها أبواب مشروعها للهيمنة والسيادة في المنطقة، ذاك الذي تدعمه قطر في الخفاء بمليارات الدولارات طوعا أو قسرا، ما يجعل قطر شبه وحيدة في المنطقة، إلا من حليف آخر تمضي مدرعاته في شوارع الدوحة لحماية النظام هناك.
دونالد ترامب إذن هو الرئيس الذي يعني استمراره في البيت الأبيض خسائر مستمرة ومستقرة لقطر.
ما الذي يتوجب فعله في الحال إن أرادت قطر النجاة؟
كما يتسرب الآن إلى وسائل الإعلام الأمريكية، يبدو من الواضح أن آلة الأموال القطرية قد بدأت مرة جديدة في محاولة قلب الأوضاع وتغيير الطباع، والعمل بكل جد على حرمان ترامب من البقاء في البيت الأبيض لثمان سنوات أخرى.
الإشكالية الحقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تحسمها المحكمة العليا هناك حتى الآن، هي تلك المرتبطة بنظام تمويل الحملات الانتخابية، حيث الديمقراطية الأمريكية تكاد تباع على الأرصفة، وليس سرا أن أي متبرع للرئيس ولحزبه يمكنه أن يقضي سواد الليل في جناح إبراهام لنكولن، ويتناول الإفطار مع رئيس الدولة في صباح اليوم التالي، حال تبرع بمئة ألف دولار للحملة الانتخابية الرئاسية.
ربما كان هذا هو "كعب أخيل" الذي تحاول قطر من خلاله الآن قطع الطريق على ترامب لولاية ثانية خلال قيام عملائها الذين تتعدد أنواعهم وتتباين أشكالهم ووظائفهم والأدوار التي يلعبونها على الساحة أو خلف الكواليس، بضخ مئات الملايين من الدولارات على مرشحين ديمقراطيين يسعون لمنازلة ترامب في حملته الرئيسية التي بدأها الأيام القليلة الماضية، والتي لم تأخذ زخمها الكبير بعد، من جراء الأزمات الكبرى المسيطرة على المشهد الأمريكي والدولي في الأوقات الراهنة وفي المقدمة منها الصراع الحادث مع إيران.
لن يطول الخداع القطري على الأراضي الأمريكية، لا سيما أن هناك الآن دعوات في الكونجرس الأمريكي تبلورت في خطاب رسمي وقع عليه عدد من الأعضاء النافذين من أمثال تيد كروز ومارك روبيو، الفرسان المنتظر بلوغهم البيت الأبيض عما قريب، خطاب أرسل إلى المدعى العام الأمريكي بوزارة العدل بشأن تراخي الوزارة في التعامل مع قناة الجزيرة القطرية، وقانونية وضعها وعملها، والرسالة تطالب بأن تسجل القناة ذاتها كعميل أجنبي على الأراضي الأمريكية بحسب القانون المعروف باسم "فارا – أكت"، الذي يلزم كافة من يتبع دوائر أجنبية بالإشهار وإعلان نفسه.
قطر أساءت قراءة التاريخ الأمريكي، ذلك أن انتخاب الرئيس وإن لعبت حملات التمويل فيه دورا مهما، لكن في أول الأمر وآخره يبقى تحت إرادة شعب، وهو تكليف أكثر منه تشريف بقيادة أمة، لا تستجيب لضغوطات الأموال الخارجية.
السؤال: "هل لم يحسب القطريون حساب غضب ترامب عليهم حال تكشفت أبعاد تلك المناورة الأخيرة من قبلهم ضده"؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة