اللقاء بين شيخ الأزهر وملكة بريطانيا هو لقاء بين قمتين تجمعان من النفوذ الأدبي والإيماني الكثير حول العالم.
ما الذي يعنيه أن يلتقي شيخ الجامع الأزهر، رئيس مجلس حكماء المسلمين الدكتور أحمد الطيب مع ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية؟
لا يمكن القطع بإجابة شافية وافية إلا إذا قدمنا لكل منهما في سطور أو كلمات بدون تطويل ممل أو اختصار مخل .
حين نتحدث عن شيخ الأزهر فإننا نتحدث عن الإمام الأكبر للمؤسسة التي تمثل العقل، وربما القلب للإسلام السني الوسطي السمح الذي يقبل الآخر ويفتح أبوابه للجميع دون تمييز أو عنصرية، وبلا استبعاد أو إقصاء لأسباب تتعلق بالعرق أو الجنس، اللون أو الدين، هكذا كان الأزهر الشريف طوال أكثر من ألف عام وهكذا سيظل، درعا لا لمصر وحدها بل لبقية العالم العربي والإسلامي.
أما اليزابيث الثانية فهي ملكة بريطانيا، تلك الإمبراطورية التي وُصفت ذات مرة من التاريخ بالتي لا تغيب عنها الشمس، هذا من الناحية السياسية أو الاستعمارية سمها ما شئت، غير أن هناك وجها آخر لها وهو المنصب الديني، فملكة بريطانيا هي الرئيس أو الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا، وتوصف باللغة اللاتينية بـRex Christianissimus أو حامي الإيمان باللغة العربية، وفي تعريفات أخرى حامي العقيدة، والمقصود هنا ولاشك العقيدة المسيحية بحسب مذهب الكنيسة الإنجليكانية، تلك التي انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر أيام الملك هنري الثامن.
حين يقيم شيخ الأزهر الشريف في مقر الأسقفية الإنجليكانية، فإن المشهد يسحب البساط من تحت أرجل المتشددين دعاة الانفصال، أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة من المهجوسين بصراع الحضارات، ويقدم لهم نموذجا لتلاقي أبناء الإنسانية.
والشاهد أنه بعيداً عن الهوامش التاريخية يضحى اللقاء بين الشيخ والملكة هو كذلك لقاء بين قمتين تجمعان من النفوذ الأدبي والإيماني الكثير حول العالم، ويجتمع من حولهما الملايين في مشارق الأرض ومغاربها .
يعني لنا التساؤل .."لماذا هذا اللقاء بعينه على درجة عالية من الأهمية والخصوصية؟".
يأتي اللقاء في وقت عصيب تعاني فيه أوروبا من أزمات متراكمة، في مقدمتها داء إرهاب الإسلام أو "الإسلاموفوبيا"، الذي أصاب الأوروبيين منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، وقد وجد وللأسف شديد من يروّج في الداخل الأوروبي لأفكار من قبيل "أسلمة أوروبا".
هذا النهج المنظم ترك أثرا بالغ السوء على الملايين من الأوروبيين الذين باتوا يعتبرون أن المسلم الأوروبي هو إرهابي أو على الأقل مشروع إرهابي، وقد تعزز هذا الطرح لدى نسبة غالبة من الأوروبيين بعد العمليات الإرهابية التي جرت السنوات الماضية في عدد كبير من دول القارة الأوروبية.
الأمر الآخر هو أن موجة المهاجرين أو اللاجئين تركت انطباعا ثانيا يعزز من النظرة المتقدمة، ويضيف إليها بعدا اقتصاديا بمعنى أن هولاء المسلمين قادمون لامتصاص خيرات بلادنا، ويضيف الكثيرون من المرجفين أن المشهد على هذا النحو يعد انتقاما وثارا خفيين من قبل العرب والمسلمين تجاه الأوروبيين الذين استعمروا معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعقود طوال من القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين .
في وسط هذا التناحر الثقافي والفكري، وجد القوميون الأوروبيون طريقهم إلى مراكز الحكم، وكادوا أن يسيطروا على برلمانات أوروبا، فيما الأسوأ ربما لم يات بعد.
من هنا باتت الحاجة واضحة لأن تعطي القيادات الدينية والمدنية على حد سواء زخما للحوار والجوار، ولبناء الجسور وهدم الجدران، وإلا أصبح العالم برمته حريقا كبيرا مشتعلا، وكارثة الأفكار أنها لا تموت، بل تنتقل بسرعة الريح في زمن العولمة على نحو خاص، وفي أوقات وسائط الاتصال الاجتماعي تضحى الشريعة لمن يعطي التوجهات الذهنية، في حين أنها في زمن الإمبراطورية الرومانية كان من يعطي الخبز هو من يقدر له أن يفرض شريعته .
ذهب الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب إلى بريطانيا للمشاركة في منتدى شباب صناع السلام، والذي يهدف إلى دعوة الشباب من جنسيات وديانات مختلفة للالتقاء تحت سقف واحد والتحاور ومعرفة الآخر، ويعود الفضل في ترتيب فاعلياته إلى الأزهر الشريف بالتعاون مع مجلس حكماء المسلمين وأسقفية كانتربري البريطانية .
تقطع المعرفة طريق الجهل وتغلق الأبواب أمام دعاة الجهالة والعنصرية، ذلك أنه إذا كان الناس أعداء ما يجهلون، فإن التلاقي والتعارف يقيمان الجسور جهة الآخر، وهذا توجه قرآني في الأصل بحسب الآية الكريمة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" ( الحجرات :13).
خلال لقاء السحاب بين الشيخ والملكة كان الإمام الأكبر يؤكد من جديد على أن الأزهر الشريف يفتح نوافذ الحوار والتواصل مع الجميع، سعياً لترسيخ قيم التعايش والحوار وقبول الآخر ، وتشجيع أصحاب الديانات والثقافات المختلفة على الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم .
بالصدق تكلم الشيخ الطيب، فقد أضحى الأزهر الشريف في حاضرات أيامنا قبلة وملتقى لأجناس وأديان وشعوب الأرض كافة، وقد تمثلت قمة التلاقي حين زار بابا روما البابا فرنسيس تلك المؤسسة الدينية والعلمية العريقة في أبريل نيسان من عام 2017 ، في لمحة تاريخية تجلو الكثير من الشوائب التي عُلقت على مر التاريخ مع المؤسسة الفاتيكانية التي تباشر روحيا نحو مليار وثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم .
بل أكثر من ذلك فإن الأزهر الشريف وعلماءه قد أصدروا منذ عامين تقريباً واحدة من أهم أوراق الساعة، وهي وثيقة المواطنة التي تغلق الأبواب أمام أي تمييز أو عنصرية، وتجعل الأوطان لمواطنيها، فيما الأديان للخالق، وهي بلا أدنى شك وثيقة تقدمية وإنسانية تدفع في طريق النهضة الإنسانية الحقيقية، وتباعد بيننا وبين الاحتراب الأهلي والطائفي الذي يعود بنا إلى أزمنة الجاهلية وعصور الطائفية .
لم يكن دور الأزهر الشريف ليغيب عن أعين ملكة بريطانيا، والتي نوهت بعلاقات التعاون المتنامية بين الأزهر الشريف وأسقفية كانتربري، ومعربة عن سعادتها لقبول فضيلة الإمام الأكبر دعوة من د. جاستن ويلبي كبير أساقفة كانتربري للإقامة في قصر "لامبث" مقر الأسقفية .
والثابت أنه حين يقيم شيخ الأزهر الشريف في مقر الأسقفية الإنجليكانية، فإن المشهد يسحب البساط من تحت أرجل المتشددين دعاة الانفصال أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة من المهجوسين بصراع الحضارات، ويقدم لهم نموذجا لتلاقي أبناء الإنسانية، سيما أبناء إبراهيم عليه السلام الذين يتشاركون الصحو والمنام تحت سقف واحد.
ملكة بريطانيا الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليكانية أصابت كبد الحقيقة حين أكدت على أن العالم يعول بشدة على القيادات الدينية من أجل تعزيز الاستقرار والسلام العالمي.
نعم العالم في حاجة ماسة إلى مد الجسور لا بناء الجدران... نعم طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة