إذا كان رمضان هو الشهر الذي حاز الشرف الزماني لنزول القرآن فإن أيامه ولياليه مساحة لتنزل قيمه في حياة الإنسان وروابطه الاجتماعية.
أقبل الشهر الكريم؛ رمضان ذاك الذي يُشبَّه في صور الآداب بين شهور السنة الأخرى بوجه يوسف بين إخوته. الشهر الذي تكتسي فيه حياة أزيد من مليار ونصف المليار من المسلمين عبر العالم صبغة متجددة ترتقي معها معاني السكينة الروحية، وتطبعها بهجة "الجَمعة" الرمضانية للعبادات والعادات على حد سواء.
يعرف الشهر بأنه شهر الصيام، العبادة التي اختص الخالق سبحانه بجزاء الصائمين عليها، ففي الحديث القدسي "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به" (رواه البخاري ومسلم)، إذ الصوم صنو الصبر، و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب) (الزمر 10). وصوم الصائم تجل لمعاني الإخلاص في عبادة لا مظهر فيها إلا الإمساك اختيارا عن كل الشهوات، امتثالا وتقربا، وبذلك كان شهر رمضان دورة تزكية روحية سنوية شاملة.
رمضان يأتي هذا العام والمسلمون يعيشون تحت وطأة الوباء الثقيلة، ويكابدون -شأنهم شأن سائر أفراد العائلة الإنسانية- آثاره التي لم يسلم منها جانب من جوانب حياتهم الخاصة والعامة
ومن اللافت أن القرآن الكريم جعل لهذا الشهر عنوانا كبيرا، وللصوم مقصدا أخلاقيا. أما العنوان فهو أنه شهر القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) (البقرة 185)، ففي هذا الشهر تنزل القرآن ختاما لحلقات سلسة الوحي، فكان لحظة فارقة في تاريخ العالم، ذلك أن رسالته هي الرحمة الشاملة للإنسانية، بل للموجودات كلها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107) و"العالمين" هم كل ما سوى الخالق سبحانه. فكأن هذا الشهر هو علامة الرحمة الإلهية بالكون ومن فيه.
وإذا كان رمضان هو الشهر الذي حاز الشرف الزماني لنزول القرآن الكريم، فإن أيامه ولياليه مساحة لتنزل قيمه ومعانيه في حياة الإنسان الفردية وروابطه الاجتماعية، أو هكذا يجب أن تكون.
رمضان مناسبة سنوية للتزود من هدايات الوحي، والنهل من حياض معانيه، والتدبر في آياته؛ حتى يُرى أثر ذلك في رؤية الإنسان للحياة والأحياء، ومنهج تفكيره في علاقته بذاته ودينه وعالمه.
وأما مقصد الصوم فقد عبر القرآن الكريم عنه بالتقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة 183)، أي أن مجاهدة النفس على مكاره الكف عن الشهوات المباحة في غير الصيام هو ارتقاء بها في مدارج التقوى، لتتجلى آثاره في سلوك الإنسان مع الناس أجمعين: أخلاقا سامية ورسالة إنسانية لعمران الأرض وبناء الأجيال والارتقاء بالأوطان.
من هنا يبدو رمضان مدرسة، منهاجها قيم القرآن ومعانيه، ومقرراتها عبادات الصيام والقيام والإطعام، أما مخرجاتها المرجوة فارتقاء بالخلق الإنساني والسلوك الاجتماعي وبنموذج الأمة المسلمة للعالم.
غير أن رمضان يأتي هذا العام والمسلمون يعيشون تحت وطأة الوباء الثقيلة، ويكابدون -شأنهم شأن سائر أفراد العائلة الإنسانية- آثاره التي لم يسلم منها جانب من جوانب حياتهم الخاصة والعامة، حتى فهمهم لرسالة دينهم في شهر الصيام حين جاءهم متزامنا مع جائحة كورونا.
مع تطور الأوضاع العامة في أجواء الوباء العالمي، وما واكبها من توجيهات وإجراءات صحية عامة، بدا جليا أن ثم رؤيتين في منهج التدين المطلوب من المسلم في هذه المرحلة، ومع اقتراب شهر الصيام كان تصاعد الجدال القائم بين هاتين الرؤيتين قد بلغ مداه.
إحدى هاتين الرؤيتين تمركزت حول الشعائر الدينية الظاهرة، وخاصة الجماعية منها كصلوات الجمع والجماعات في المساجد، والتراويح وأداء العمرة في رمضان، معتبرة ألا مقصد من مقاصد الدين ولا فريضة من فرائضه أولى بالتمسك والعناية بها من هذه الشعائر.
أما الرؤية الثانية فقد استصحبت مقاصد الدين وقيمه الكلية، وفي مقدمتها حفظ النفس الإنسانية، والاعتناء بمقومات وجودها ورعاية مصالحها الحالية والمستقبلية (العاجلة والآجلة بلغة الفقهاء)، أي الحفاظ على الإنسان وسلامة كيانه الاجتماعي وعمرانه الحضاري ومستقبل أجياله، حتى لو استوجب ذلك امتناعا مؤقتا عن بعض تلك الشعائر الجماعية في مرحلة المحنة العالمية الراهنة، امتثالا لرسالة الوحي الآمر بالعبادة نفسه، واستجابة لخطاب القرآن الكريم ذاته، خاصة وأنه ما من شعيرة من الشعائر العبادية التي اقتضت سلامة الناس الإمساك عنها مؤقتا، إلا وشرع الدين بدائل لا تقصر بصاحبها في الفضل والمثوبة.
إن هذا التعارض بين الرؤيتين طارئ أصلا، ولا مجال له في الإسلام، حيث المقاصد خلاصة أحكامه، والقيم روح تعاليمه، والأخلاق ثمرة عباداته كلها. أليست الصلاة (تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)؟ وحق الفقراء من مال الأغنياء طُهرة للنفس وزكاة للمال؟ أي نماء وبركة، أليس (مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه)؟ (رواه البخاري)، أليس مستحق الأجر من الحج والعمرة هو من (لَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ)؟ (متفقٌ عَلَيْهِ). فلا تفريق إذن بين مقاصد الدين -وجوهرها الارتقاء بالإنسان- وبين أحكامه في العبادات والشعائر.
وإنه لمن واجب المسلم تجاه نفسه وأهله ووطنه وإنسانيته أن يلتزم بما أجمعت عليه المرجعيات الدينية المعتبرة في الفتوى من واجب التزامه البيت في شهر رمضان كذلك، تجنبا لمخاطر العدوى، ولمأساة أن يكون الفهم القاصر لرسالة دينه سببا في الأذى لنفسه ولغيره.
كم هو حري به أن يكون تعبير صدق عما يرمز له هذا الشهر المبارك من الرحمة الإلهية بالكون ومن فيه جميعا، وما أحوجهم لتلك الرحمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة