قطر تمتلك كثيرا من الموارد. إنها نعمة ربانية قبل كل شيء. وهذه يمكن أن يتم توظيفها لتكون نعمة، كما يمكن توظيفها لتكون نقمة
إذا أمكن للمرء أن يستثني الاعتبارات ذات الطبيعة السلبية، من قبيل المناكفة، والتكابر، والضغينة، فإن ضياع البوصلة هو مشكلة قطر الكبرى.
لا أحد يمكنه أن يتخيل أن تكون قطر مركزا دوليا لأي مشروع أيديولوجي. دعك من المناكفة، وستعرف أن دعم تنظيمات الإخوان المسلمين شيء لا يتلاءم مع طبيعة قطر نفسها، ولا طبيعة دول الخليج برمتها. وهو ما يعني أن التورط في قالب عقائدي مهووس وإشكالي كهذا، هو بكل بساطة، ورطة من لزوم ما لا يلزم.
المشاريع الأيديولوجية، الكبرى منها والصغرى، لم تعد لها الصدارة في عالم اليوم. انظر إلى ما يحرك العالم، من فوق، وسترى علاقات مصالح وتسويات وتموضعات سياسية واستراتيجية وتجارية تستهدف رفع مستويات الرفاهية، أو في الأقل ضمان ما هو قائم منها. الأفكار الكبرى تنحسر، لتبدو كمجرد تطلعات ثقافية. وفي أفضل الأحوال، فإنها مؤشر أخلاقي، أو حتى فيلم، نحضره ونذرف دموعا فيه، قبل أن نصحو على واقع مختلف. انظر في ماركسية الأحزاب الاشتراكية على سبيل المثال، وسوف ترى شيئا لا يزيد على ذلك الفيلم. الحال نفسه ينطبق على الأحزاب ذات الطبيعة القومية عندنا. سوى أن المشكلة مع عقائدية الإخوان هي أنها مشروع لا يمكن رفعه إلى مصاف أخلاقية، لأن طبيعته المتطرفة لا تسمح له بذلك. إذا كان بوسع المرء أن يدلق سطلا من الماء على اشتراكية كارل ماركس، لتتخفف من وطأة الجذرية، فتجدها تصلح في السويد بمقدار ما تصلح لحزب العمال البريطاني، فإن بحرا بكامله لن يكفي لتخفيف وطأة العنف في عقائدية أبو الأعلى المودودي وحسن البنا. إنه مشروع تكفير، وهدم، كما أنه مشروع مسدس ولو زعم غير ذلك. وكان حسن البنا يأخذ الولاء من جماعته بالقرآن والمسدس، ولربما لا يزال ورثته يفعلون الشيء نفسه.
التورط بدعم تنظيم مثل هذا، ورطة لأي دولة، حتى لو كانت دولة عظمى قد تسعى لتوظيفه كدمية لتحقيق أغراض أخرى. وحتى هنا، فإنه سرعان ما قد ينشأ حشد من الأسئلة: ما تلك الأغراض؟ ولماذا نتبناها؟ ولخدمة من؟
فما بالك بورطة مكشوفة ومعلنة ويتم إنفاق المليارات من أجل تسويقها وتجهيزها وتسليحها؟ لا بد للعاقل أن يكتشف أن هناك شيئا ما خطأ، في البوصلة.
وتملك قطر كثيرا من الموارد. إنها نعمة ربانية قبل كل شيء. وهذه يمكن ان يتم توظيفها لتكون نعمة، كما يمكن توظيفها لتكون نقمة. فسبحانه وتعالى لم يهد خليقته من البشر "النجدين" إلا لكي يختاروا.
ستكون شهادتي مجروحة لو أجريت مقارنة باستثمارات قطر في دعم جماعات الإسلام السياسي، في مقابل استثمارات الإمارات والسعودية في العالم العربي. ولكن المفارقة مذهلة، إلى درجة تثير الخجل من المقارنة نفسها. أولا، لأن استثمارات هذين البلدين العربيين تستند الى أسس ترعى القيم والمعايير الدولية في العلاقات بين الدول. وثانيا، لأنها تضع التنمية البشرية والاقتصادية الجامعة نصب العين. وثالثا، لأنها تنظر إلى المنافع المشتركة بين شعبين. ورابعا، لأنها، انطلاقا من هذا الأساس، تخدم قيم السلام والتعاون والتقدم.
ببساطة، فإن بناء مصنع في تونس شيء، وتمويل حزب النهضة شيء آخر. الأول يبني لشعب باقٍ، والآخر يبني لمنظمة تتلاطمها أمواج الحياة.
وهنا أيضا، فلا بد للعاقل أن يكتشف أن "الاستثمار" في تنظيمات سياسية، كائنة ما كانت، ينطوي على خطأ مريع في البوصلة. حتى ليكاد كل درهم يُنفق فيه، إنما يدخل في محرقة لا يسفر عنها إلا الرماد.
والتحديات التي تواجه دول المنطقة، ومنها دول الخليج العربي، كبيرة وصارخة إلى درجة تثير الحيرة، كيف يجوز للانقسام أن يتحول إلى تهديد جماعي؟ أو كيف يمكن لقطر أن تقف في صف خصم عنيد مثل إيران لا يضمر لكل دول المنطقة إلا الشر والخراب؟
أعمال إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن بلغت من الشر حدا تكلّف حياة الملايين من البشر. ويحتاج المرء أن يكون أعمى البصر والبصيرة لكي لا يرى أنه معني بهذا الخطر، وأنه يتحمل مسؤولية عظمى لمواجهته، فما بالك بمن يذهب به خراب الفطنة إلى التحالف أو التواطؤ معه؟
القيم العربية التقليدية تقول: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب". ترضاها أو لا ترضاها، فإنها هي هكذا. الأخ، هو في النهاية، أخ. وإيران غريب، حتى أنها ليست ابن عم لأحد.
عندما شاع النبأ، بأن قطر كانت على علم مسبق بجريمة الاعتداء على "أرامكو" ولم تُبلغ السعودية به. قلت في نفسي: مستحيل. لا يمكن للبوصلة أن تخطئ إلى هذا الحد.
هل يمكن للبوصلة أن تُصلح؟ قل: يا رب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة