إيران الثائرة.. إصلاحات أفسدها الولي الفقيه
المظاهرات التي انتظمت جميع المُدن والقرى الإيرانية أتت عفوية ودون تنظيم مسبق
تراكمت الأمور العصية على العلاج في إيران واحدة تلو الآخرى منذ مجيء الملالي إلى سدة الحكم بالبلاد في فبراير عام 1979 وحتى اليوم، دون أن تقدم أي جهة الحلول اللازمة لـلخروج منها.
وطيلة الـ40 عام الماضية، فرض الولي الفقيه سياساته الداخلية والإقليمية الفاشلة بعنجهية حمقاء وعبر سطوة المخابرات وسلاح مليشيا الحرس وهمجية قوات الباسيج، وخلو الساحة السياسية الإيرانية من أي تشكل مستقل عن السلطة يعكس معاناة الناس.
ومن خلال المؤسسات الباطشة في القضاء وقوات الأمن والمخابرات جرد الولي الفقيه الشعب الإيراني تماما من أي وسيلة للدفاع عن نفسه، سواء كانت في وسائل الإعلام، أو غيرها من مؤسسات الدولة، أو على صعيد الأحزاب السياسية وتحركات المجتمع المدني.
وفي هذه الأجواء، أراد أن يكون المجتمع الإيراني تحت حكمه تحت ظل ما يوصف في إيران بـ "صمت المقابر"، حيث مجتمع بلا رادع ولا كلمة اعتراضية على غطرسة وتَعظُّم الولي الفقيه، يتبعه بما يريد ويهتف بشعاراته الكاذبة، قد مَلَّ منها الناس طيلة السنوات العجاف من حكم علي خامنئي وسلفه على إيران.
وقبل أن يختار منازلة النظام في الشوارع، منح الشعب الإيراني نظام الملالي فرصتين للإصلاح في عامي 1997 و2013، بغية الدخول في "الصراط المستقيم" والابتعاد عن السياسات الكارثية التي حلّت بالبلاد ووصلت نيرانها لدول الإقليم.
وهي السياسة التوسعية التي دفع الإيرانيون -ولا يزالوا- فاتورتها الباهضة بدمائهم وثرواتهم الوطنية، إلا أن الولي الفقيه، وبدلا من أن يتعلم دروس التاريخ، سار عكس ما يطالب به الشعب، وقضى على إصلاحات الرئيس الأسبق محمد خاتمي وفرض أحمدي نجاد بالنار والحديد على عموم الناس ليختلف معه، ويسمح بمجيء الرئيس الحالي حسن روحاني الذي لم يقدم سوى المزيد من الوعود الإصلاحية.
ولكن بعد تمرير الاتفاقية النووية التي كانت من أهم الأسباب الحقيقية لاستمرار روحاني رئيساً للبلاد، انقلب عليه الولي الفقيه ودفعه للاستسلام أمام جلاوزته من مليشيا الحرس، الذين عاثوا في إيران فسادا، لتورث الإيرانيين المعاناة من شظف العيش وتفشي الفساد والرشاوى في الإدارات وانهيار الاقتصاد في البلاد.
ومنذ الخميس الماضي، وبعد عقود من المعاناة واليأس من انصلاح حال نظام الملالي، نزل الشعب الإيراني بقوة إلى الشوارع كي يعبر عن إرادته ومطالبه المشروعة، بعدما جرب كل الوسائل المطلوبة لمناشدة النظام بالتخلي عن الأخطاء القاتلة وتبني مطالب عموم الناس، بدلا من الخوض في الحروب الطائفية التي يقودها قاسم سليماني في سوريا واليمن والعراق ولبنان.
انطلقت المظاهرات العارمة تحت شعارات اقتصادية ومن أجل احتوا الغلاء المتصاعد في البلاد، لكنها سرعان ما تحولت إلى هتافات سياسية تستهدف رأس النظام الحاكم والمؤسسات التابعة له وأزلامه في هرم السلطة، وثم تعدّت الحدود الإيرانية ووصلت إلى حسن نصرالله وعصابته في لبنان.
وبالمقارنة مع الانتفاضات السابقة التي اندلعت في إيران، والمسارات الجديدة التي يتخذها الحراك الجديد، يمكن وصف الهبة الجماهيرية في إيران على ضوء النقاط التالية:
أولاً: يضعنا حجم المظاهرات التي انطلقت من مدينة مشهد ثاني أكبر المدن الإيرانية وانتقلت لمُدن أساسية في المربع الشمالي الشرقي من جغرافية البلاد كـ"شاهرود ونيسابور وكاشمر"، ثم استمرت في اليوم الثاني في كل أنحاء البلاد، من مدينتي ساري ورشت في الشمال إلى الأحواز في الجنوب ومرورا بكرمانشاه وهمدان في غرب إيران، إلى مُدن مركزية مثل إصفهان وخرم أباد وقم وشيراز في الوسط وثم إلى العاصمة طهران.
يقودنا هذا الحراك الشعبي الواسع لأسباب بنيوية تقف وراءه، وهي المسببات التي لا يمكن اختزالها في الدوافع الجانبية، كما ذكر البيان الصادر من قبل مليشيا الحرس الثوري، والذي حصر الانتفاضة في إطار ضيق واختزالها بمواقف أحمدي نجاد ضد السلطة القضائية الأخيرة.
فيما تبدو الحقيقة واضحة وجلية للحرس الثوري نفسه قبل الآخرين أن أحمدي نجاد لا يمتلك لا القاعدة الجماهيرية ولا الوزن السياسي المعروف الذي يمكنه من حشد الجماهير وإخراجها للشوارع، لا في الوقت الراهن ولا حتى عندما كان رئيساً لإيران عندما اضطرت مليشيات الحرس لتزوير الانتخابات لصالحه في عام 2009.
ثانياً: إنه ومن خلال متابعة الصور والمقاطع التي تناقلها الناس بشكل واسع عبر الشبكات الاجتماعية ووسائل التواصل في داخل إيران وخارجها تشير جميعها إلى أن المظاهرة الواسعة في كل أنحاء البلاد خرجت دون لافتات ولوحات مدبرة مسبقا لكتابة الشعارات عليها.
وهي العفوية التي اتسمت بها المظاهرات الاحتجاجية التي انتظمت جميع المُدن والقرى الإيرانية، على الرغم من ضخامتها وتوسعها في كل أرجاء البلاد، دون تنظيم مسبق أو قيادات معينة، ومن الأرجح، لو استمرت في الأيام القادمة ستكون لها قيادات وستخرج تحت برنامج مُعد سابقا وأُمور تنظيمية واضحة ترسم لها أهدافاً معينة، وستكون ضاربة ومؤثرة في الضغط الهادف على نظام الولي الفقيه. والوضعية الجديدة بعد التنطيم والقيادات لهذه الانتفاضة الواسعة ستتحول إلى كابوس للنظام وأزلامه، يصعب عليه إخمادها كما فعل في الانتفاضات السابقة.
ثالثاً: تنقلنا الشعارات والهتافات التي تتردد على لسان المتظاهرين في الأيام الأخيرة إلى حقيقة جديدة، وهي أن الشعب الإيراني تجاوز مرحلة الإصلاحات ويريد إسقاط نظام الولي الفقيه برمته.
فهذه الشعارات تستهدف رأس النظام وسياساته وتطال مؤسساته وأزلامه في الداخل والخارج.
وفي الوقت الحاضر لا حسن روحاني ولا محمد خاتمي يستطيعان التأثير على المتظاهرين ودفعهم في المسارات المطلوبة وفقا لمصالح النظام الحاكم ومن أجل الالتفاف على الحراك الشعبي كما حصل في عام 2009.
فالحراك الجديد ينطلق من قيادة جماعية تختلف تماما مع القيادة الحاكمة أيدولوجيا وفكريا، ولها بنية وشكل وأهداف مختلفة تماما عن الذين يحكمون إيران اليوم، هذا يعني أن حسن روحاني وشخصيات على شاكلته فقدت التحكم بما يجري الآن في الشارع الإيراني.