عقر الخيال عقرًا، فروضه فكان نديمًا له لا يفارقه، لامس تخوم الجنون من فرط تجاوزه لكل مدركات المنطق، فكان يرد ساخرًا على من يسأله بأنه يتلقى وحيًا من الجن.
احترف غزل الأحجيات على الأذن والعين، فكان نفسه لغزًا حير خلفه ومعاصريه. وما زال حتى الآن طيفًا حائرًا لم ينل حقه من التدبر والتكريم رغم أنه المخترع الأول لصناعة الترف والإتيكيت في العالم.
إذا غشيه الخيال وهمّ به، فحتمًا ستجد ابتكارًا خلابًا أو لحنًا فريدًا خالصًا في معزوفة الحضارة الإنسانية.. خذ مثالًا بسيطًا على ذلك.. إذا طلبت منك أن تفكر في نسر جارح معقوف منقاره مدببًا، وشبل لأسد يلهو قبل أن تنفر أنيابه وتبرق مخالبه، ماذا قد يتبادر إلى ذهنك؟.. لحظة قبل أن يرتد إليك شرودك خاسئًا بحثًا عن فريسة شاردة لا مكان لها في هذا المثال.. ما يجمع الطائر الكاسر والشبل هو "الشحرور" أو "الزرياب" الأسمر أو "ماء الذهب" باللغة الفارسية.. إنه الموسيقار الأندلسي أبو الحسن علي بن نافع الذي ولد عام 789م.
كان في أول أمره تلميذًا لإسحاق الموصلي موسيقي هارون الرشيد، ويقال إنه أبدى من البراعة ما لفت إليه نظر الرشيد، فشعر إسحاق الموصلي بالغيرة من تلميذه النابه فهدده بالقضاء عليه، فخرج من بغداد ووصل إلى القيروان، وهناك اكتسب لقب زرياب، وهو طائر أسود.
عندما يعمل عقل زرياب لابد من أن يكون المنتج شيئًا غير مألوف، ففي يوم أخذ 7 ريشات من جناح النسر ونقعهن في الزيت لمدة شهر، حتى أصبحت غضة لينة مهيضة وجعلها أداة للعزف على العود بدلًا من اللفافة الخشبية التي كانت تقطع الأوتار خلال العزف، وصنع من أمعاء شبل الأسد أوتارًا للعود وأضاف إليه وترًا خامسًا جهيرًا من ابتكاره (بدلًا من أربعة أوتار كانت تعتمد عليها صناعة العود وقتئذ) ليجعل من هذا الصندوق الخشبي الصغير عالمًا ساحرًا خطف ألباب وعقول وقلوب كل من سمعه من وقتها وحتى اليوم.
وبخياله الخصب، لم يقتصر تأثير زرياب على عصره فحسب، بل تعدى ذلك ليمس أجيالًا متعاقبة، مرسخًا مكانته كرائد للتجديد الموسيقي والثقافي في التاريخ الإنساني. بعد أن وضع أسس السلم الموسيقي وكتب أول أيقونات أرهصت للنوتة الموسيقية التي نعرفها حاليًا، اخترع زرياب نوعًا جديدًا من الغناء يُعرف باسم الموشح، وأدخل عددًا من التعديلات على بعض الأدوات الموسيقية، كما أنه أول من أسس فرقة موسيقية في العالم وأنشأ أيضًا أول معهد للموسيقى في العالم أيضًا.
حتى الآن وعدد غير قليل ممن لديهم اطلاع على تاريخ المغرب والأندلس له معرفة بأبي الحسن علي بن نافع ولكن ما لا يعرفه الكثير أنه كان إحدى الشخصيات الحضارية العالمية، فقد كان بجانب صوته العذب الطروب واحترافه لصناعة النغم واللحن الذي فتح الباب لصناعة الروك والرول في العالم، كان أديبًا فذًا، عالمًا فلكيًا، متبحرًا في علوم النفس والاجتماع، جامعًا للحكمة وللأمثال والموروثات الشعبية، ومؤرخًا لتاريخ الملوك والبلدان وسير الملوك.
ليس هذا فحسب، بل هو الذي علم العالم "الإتيكيت": فقد كان عندما ورد الأندلس مهاجرًا وجدهم يأكلون على الأرض فعلمهم الأكل على الطاولة وقام بترتيب المائدة بشكلها الحالي، الأكل بالشوكة والسكين وكذلك ابتكاره الأكواب الكريستالية لتستخدم بدلًا من الأواني الذهبية أو الفضية، وترتيب تقديم الأطباق بداية بالشوربة ثم الطبق الرئيسي ثم المحليات، وهذه الوجبة متعددة المراحل أصبحت المعيار المتبع في العالم الغربي كله وليس في إسبانيا الإسلامية فقط.
وأضاف إلى المطبخ الأندلسي كثيرًا من الأصناف والخضراوات، وابتكر قائمة طويلة من الحلويات الشرقية كالهندباء والكمأة، وإليه نُسبت (الزلابيا) تحريفًا لاسمه.
ومن الطعام إلى عالم الأزياء والموضة، فقد أوغل في أصول تناسق الألوان في الملبس، وفي عالم النساء بتسريحات الشعر المميزة؛ مما يجعله أول كوافير للنساء في العالم.
وساهم زرياب في نشر علم أناقة الملبس وتنويعه بين فترات الصباح والمساء وبين الفصول الأربعة، وتقلبات الجو المختلفة. والملابس الخاصة بالسهرات والمنزل والخروج وملابس منتصف اليوم، كما أنه ساهم في نشر علم العناية بالبشرة وفن التجميل ونظافة الجسد، حيث علم زرياب النساء فن نتف شعر الحواجب وإزالة هذه الشعيرات المحرجة التي تنمو في أماكن غير مناسبة، وقدم مزيلات لرائحة العرق تحت الإبط، وحسن منظفات غسيل الملابس، وحتى إن الشحرور أسس أول مدرسة للتجميل بالقرب من قصر الأمير عبد الرحمن، لينشر أفكاره في جميع أنحاء الأندلس. وعلم زرياب عبد الرحمن وحاشيته تسلية هندية كانت متفشية في جميع أنحاء بغداد، وأصبحت تُعرف في أوروبا بـ"الشطرنج".
كما قام بتنمية وتطوير المجتمعات الأندلسية ونقلها من الفوضى إلى التحضر، فقدم روافد ثقافية مهمة، تنوعت مفرداتها عبر علوم عديدة كالفلك والنجوم والنبات والحيوان والتاريخ وعلم الاجتماع.
وإذا كان زرياب أول فنان عربي هُدد بالقتل من قِبَل أستاذه أبي إسحاق الموصلي، فلربما كان هذا التهديد هو فاتحة مشروع حضاري متكامل علم العالم فن صناعة الترف وكان أهم جسور التواصل الحضاري بين الشرق والغرب. ونظرًا لأن زرياب سحر الأندلس بموشحاته وموسيقاه وتعليمهم الحضارة التي نُقلت لاحقًا إلى أوروبا، فقد كان موضع هجوم بعض المؤرخين، الذين اعتبروه أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الأندلس، زاعمين أنه صرف أمراءها وشعوبهم عن الدين لصالح سحر موسيقاه وتعاليمه. لكن المعروف أن سقوط الأندلس له العديد من الأسباب السياسية والعرقية والجيوسياسية قبل الأسباب الدينية، وهي التي كانت وراء ضياع كلمة المسلمين هناك وتشرذمهم إلى ما عُرف بملوك الطوائف، قبل أن يرحل آخر مسلم عن غرناطة، وتنزوي الأندلس وينتهي مصيرها إلى صفحات التاريخ.
وإذا كان لكل مؤرخ نافذته الخاصة في رؤيته التاريخية والزاوية التي يريد أن يقرأ من خلالها إرث زرياب، فإن ما يجمع بينهم هو التوافق على أن هذا العبقري ظُلم من التاريخ ولم ينل حقه من التكريم الحضاري. فلم يكن مجرد ملحن أو مغنٍ أو موسيقي فحسب، بل كان موسوعة متنقلة تمشي على الأرض، وعالمًا مُلمًا بمختلف ألوان العلوم. فقد كان فلكيًا عارفًا بالنجوم ومُطّلعًا على جغرافية الأرض والبلدان، ومتعمقًا في التاريخ وأخبار الملوك والأمراء.
إن زرياب، بما قدمه من إسهامات متعددة الأوجه لم يكن مجرد موسيقار، بل كان مهندساً لثقافة وحضارة شكلت جسوراً بين الشرق والغرب تؤسس لما يجب أن نحميه ونراعاه وهو "التراث العالمي المشترك".
التاريخ لم ينصفه، لكن الزمن لن ينسى بصماته، مانحًا إيانا درسًا في الابتكار والتنوع والجمال. إن إرث زرياب يذكرنا بأن عظمة الإنسان تكمن في قدرته على خلق جمال يتجاوز الزمان والمكان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة