استقالات العشرات من كوادر "حركة النهضة" في تونس، لا تقول إن قيادة راشد الغنوشي قد انتهت، ولكنها تقول إن الحركة نفسها انتهت.
الغنوشي يتشبث بسلطته في الحركة لأنه يعرف أنها لن تعود موجودة من بعده. سوف تتحول إلى كتل ممزقة لا تعرف ماذا تريد أو كيف تصل إلى ما تريد.
الإسلام السياسي كله، بكل ما فيه من تيارات، وضع لنفسه هدفا يقوم على هدم الدولة، ومعها العمران الاجتماعي القائم، لأجل إقامة كيان سياسي منفصل عن الواقع، ينشغل بكل ما لا علاقة له بالنمو الاقتصادي والتقدم العلمي والتحضر الإنساني.
فكرة "إدارة التوحش" التي تبناها تنظيما "القاعدة" و"داعش"، هي جوهر المعنى من ذلك الهدف. وكل تيارات الإسلام السياسي تأخذ بها، بهذا المقدار من الصراحة أو بذاك. ولهذا السبب، فإنك أينما نظرت إلى التنظيمات الإسلامية، فسوف ترى تخريبا متعمدا للدولة وللمؤسسات ولنظم العلاقات الاجتماعية. كما سترى مليشيات مسلحة، أو غير مسلحة، تقدم الإشارات الكافية على أنها هي البديل عن أجهزة الأمن والدفاع. وليس هناك من شيء يمكن اعتباره وطنا يتعين الإخلاص له، ولا شعبا يتعين أن ترعى مصالحه. وذلك تحت غطاء أن "الأمة لا حدود لها، ولا وطن"، وأن خدمة المسلمين في تركيا أو إيران، على سبيل المثال، أهم من خدمة المسلمين في تونس أو العراق.
الآن، ماذا يكتشف كوادر "النهضة" عندما يرون أن حركتهم مضت في هذا الطريق لكي تهدم تونس؟ وهل الغنوشي وحده هو السبب؟ وهل تكفي إقالته أو استقالته لكي تجعل هذه الحركة قادرة على السير في طريق مختلف؟
هذه هي الأسئلة الصعبة، التي تجعل هذه الكوادر تتبرأ من الحركة وتتنكر لما فعلته على امتداد الـ11 سنة الماضية.
شيء مفارق، هو أن النهضة التي قدمت نفسها كمشروع معتدل للإسلام السياسي، كانت المسافة بينها وبين "داعش" تساوي صفرا من حيث المؤدّى النهائي للمفاهيم. ولكن الشيء المفارق الأكثر إثارة للدهشة، هو أنها حاولت أن تصطبغ بطابع تونسي بينما هي لم تفهم تونس، لم تفهم تاريخها، ولا طبيعة تموضعها في تاريخ الفكر الإصلاحي الإسلامي، ولا الطبيعة الاجتماعية للتوانسة أنفسهم.
هناك في هذه البلاد برز محمد الطاهر بن عاشور الذي انتصر لحقوق المرأة ومساواتها، وسالم بوحاجب ومحمّد النخلي وكانا من رواد "الجمعية الخلدونية"، التي رعت الدعوات إلى التجديد. وهناك برز عبد العزيز الثعالبي الذي ناصب شيوخ الزيتونة المحافظين العداء حتى قال فيهم إنهم "جاهلون مُتكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثاتهم، خاصة بعجائب التكايا وكرامات القبور وعلمهم كعلم آلهة الأشوريين لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد ولا ينعدم، وهو محصور في تصريف أكل يأكل أكلا…".
كما برز في تونس من المجددين العشرات من كتاب مجلة "العروة الوثقى" من أمثال محمد الشاذلي خزنة دار وصالح السويسي محمد الفائز القيرواني وسعيد أبي بكر والهادي المدني والشاعر الشهير أبوالقاسم الشابي، والطاهر الحداد صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع".
هؤلاء وغيرهم صنعوا روحا لتونس تختلف في تصورها الحضاري للإسلام عما كان سائدا في الكثير من بلاد المسلمين.
حركة النهضة، بانتسابها الوثيق إلى نظرية "الحاكمية" التي نقشها أبو الأعلى المودودي، إنما وُجدت لكي تنقلب على تلك الروح وتناصبها العداء المكشوف.
لقد حققت "النهضة" جزءا مهما من مشروعها التخريبي عندما أغرقت تونس بالفساد ودفعتها إلى حافة الانهيار والإفلاس. وما كان الغنوشي إلا ممثلا لهذا المشروع. سوى أنه كان رجل الألاعيب والمؤامرات الدفينة والوجوه المزدوجة أكثر من غيره.
الحركة، بنفسها وبرئيسها، تقف الآن في منتصف الطريق. لا هي قادرة على العودة إلى الوراء، ولم يعد بوسعها أن تمضي بمشروعها التخريبي إلى الأمام.
استقالات كوادر "النهضة"، لم تعلن نهاية قيادة الغنوشي، ولكنها أعلنت نهاية المشروع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة