الرئيس التركي يقول إن مسار العلاقات بين أمريكا وتركيا "لا يبشّر بالخير".
وهو بهذا يقول إن مقبل الأيام والأشهر ستحمل توترا بين البلدين، والسبب، الذي يسوقه في الخصومة المقبلة مع الولايات المتحدة، هو دعمها لكرد الشمال السوري، فهؤلاء طبعا من وجهة نظر الرئيس التركي "منظمات تتربص بحدود بلاده الجنوبية"، وبالتالي يجب على واشنطن محاربتهم بدل دعمهم، إنْ كانت تريد مواجهة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.
الكونجرس الأمريكي يعد ميزانية بعشرات ملايين الدولارات لدعم كرد الشمال السوري، وهذا الدعم ينقسم إلى شقين، عسكري واقتصادي، وكلاهما يجعل مناطق شرق الفرات تنزع إلى الاستقلال أكثر فأكثر، ويجعل قوات سوريا الديمقراطية أكثر جرأة على مواجهة الأتراك والفصائل السورية المؤيدة لها شمال البلاد.
التوتر قائم أصلا بين الطرفين، ومزيد من التسليح والدعم للكرد سيكون بمثابة دفع مباشر نحو المواجهة، أو على الأقل سيكون مبررا لمحاولة تركيا التوسع أكثر داخل الأراضي السورية.
لا يطيق الرئيس التركي صبرا لمثل هذا التوسع، ولو أن الروس وهبوه بعضا من الضوء الأخضر لكان أنجز المهمة واحتل كامل الشريط الحدودي غرب الفرات.
الرئيس التركي يقول إنه لا حضور فعلي للقوات الأمريكية في الميدان السوري، والتنسيق في ذلك الميدان يجب أن يكون بين بلاده من ناحية وبين إيران وروسيا، فالدول الثلاث هي من تمتلك النفوذ الفعلي، على حد تعبيره، وربما يكون هو محقا في ذلك من ناحية حجم القوات والعتاد للدول الثلاث مقارنة بأمريكا، ولكن عندما يصبح الحديث عن مدى التأثير في مسارات الأزمة وسبل حلها، فالولايات المتحدة تأتي في المرتبة الأولى.
يقول الرئيس التركي إن ما تواجهه بلاده الآن مع الإدارة الأمريكية الجديدة لم تشهده مع أي إدارة سابقة، وعلاقات البلدين كشريكين في حلف شمال الأطلسي "الناتو" كان يمكن أن تكون أفضل من ذلك بكثير.
لكن هل يُعقل أن يكون الدعم الأمريكي لأكراد سوريا هو السبب الوحيد لكل هذا؟ هل الأزمة السورية هي الملف الوحيد العالق بين تركيا وأمريكا، ولا يوجد ما يزعج واشنطن من أنقرة في المنطقة والعالم عموما؟
تصريحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تجيب عن هذا التساؤل بوضوح شديد، فهو يبشر بنقلة نوعية في علاقات بلاده مع أنقرة، تحملها القمة المرتقبة، التي تجمعه بنظيره التركي في مدينة "سوتشي" الروسية نهاية الشهر الجاري.
"بوتين" يقول إن قرارا هاما في مسار هذه العلاقة سيُتخذ، ومن بعده سيمضي البلدان نحو مزيد من التقارب والتعاون بينهما.
في الوقت الراهن، لا يبدو هناك ما يمكن أن يجمع أنقرة وموسكو دون أن يُغضب واشنطن، وتلك الجبهات، التي تشكلها أمريكا لاستعادة قطبيتها والحد من النفوذين الصيني والروسي حول العالم، لا تحتمل الاستثناءات.
بالتالي أيا كان شكل التعاون المقبل بين الروس والأتراك، سواء كان في سوريا أو خارجها، فلن ينزل بردا وسلاما على صدور الأمريكيين، فتركيا لم تنته بعد من أزمة شرائها منظومة صواريخ "إس 400" الروسية، حتى تستدعي أسبابا جديدة للتوتر مع أمريكا، أو ربما يكون الفشل في حلحلة هذه الأزمة هو ما جعل الرئيس التركي يفقد الأمل في التصالح مع واشنطن، ويبوح بمكنونات صدره حول العلاقة، التي لا تقارب "المستوى الطبيعي" مع "البيت الأبيض" بعد رحيل الرئيس السابق دونالد ترامب.
منذ قدوم الرئيس جو بايدن مطلع العام الجاري، لم تحقق العلاقات التركية-الأمريكية أي تقدم في أزمة صفقة الصواريخ الروسية، أو أي ملفات أخرى، وما الانعطافات، التي عرفتها السياسة التركية الخارجية خلال هذا العام إلا مرآة لهذا الواقع، الذي يقول بوضوح إن إدارة "بايدن" لا تدعم الأطماع التركية في المنطقة، ولا تؤيد أن يكون الرئيس التركي الحالي هو الممثل الرسمي للمصالح الأمريكية في قارة آسيا أو الشرق الأوسط.
التخلي الأمريكي عن تركيا في أفغانستان كان أحدث مظهر من مظاهر الفجوة بين البلدين، فقد كانت تركيا تأمل في دعم واشنطن في مسألة إدارة وتأمين مطار كابول بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ولكنها لم تفعل.. تذرّعت الولايات المتحدة في ذلك برغبة "طالبان" في إتمام الانسحاب الأجنبي حتى آخر جندي لقوات "الناتو" هناك، وفضلت إرضاء الحركة على تقديم ذلك الدعم اللوجستي والمالي، الذي طلبته تركيا لتولي المهمة في كابول.
البحث عن دور إقليمي ودولي لتركيا عبر عضويتها في الناتو أو تشابك مصالحها وملفاتها مع الدول العظمى في المنطقة هو جزء من مشكلة أمريكا، والغرب عموما، مع تركيا، التي تُعتبر في هذا البحث دولة متقلبة التحالفات ومتبدلة المواقف، كما أنها تمارس كثيرا من "الانتهازية"، التي تثير حفيظة حلفائها وشركائها قبل خصومها وأعدائها.
العلاقات السيئة لتركيا مع الولايات المتحدة اليوم ليست نتاج تباين في موقف واحد، كما أنها لم تتشكل بين ليلة وضحاها.. لقد أمعن الرئيس التركي في أحلامه السياسية لسنوات طويلة، وظن أن بإمكانه إحياء إرث دولته ليكون حاضرا خلال ما يأمله من تفاوض على حدود تركيا حال انتهاء صلاحية اتفاقية "لوزان" في يوليو/تموز 2023.
ظلت تركيا لسنوات تحاول أن تكون "دولة مؤثرة" عبر التدخل المباشر وغير المباشر في شؤون بعض الدول العربية، والتعدي على مصالح جيرانها في البحر والبر.. واليوم تدرك أن فعالية الدول تُقاس بعلاقاتها الجيدة وتحالفاتها الاستراتيجية، وقد باتت تركيا بحاجة إلى مراجعة شاملة لكل ما فعلت، ولكن ذلك يحتاج منها إلى وقت طويل، كما يحتاج إلى رغبة من الخصوم والأصدقاء في التصالح وإعادة الثقة بينهم وبين تركيا.
في المحصلة، الخصومة مع أمريكا جزء من مشكلة تركيا مع العالم الخارجي اليوم، فهي تحتاج إلى كثير من العمل، ليس فقط لأن الفجوة بين الطرفين كبيرة إلى حد ما، وإنما أيضا لأن الولايات المتحدة تريد من دول العالم الآن دعما غير مشروط وغير متبادل، ولا يهمها أين تكمن مصلحة الدول وكم تكلف التبعية العمياء لها.
ثمة حرب عالمية باردة تستعد لها أمريكا، لن تحتمل نصف حليف أو نصف خصم، والمشكلة أن تركيا لا ترى ذلك حتى الآن، وتصر على التذبذب في علاقاتها مع الأصدقاء والأعداء.
وكما يقول الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة إبراهام لينكولن: "إذا كنتَ تريد أن تكسب أحداً لقضيتك، عليك أولاً أن تقنعه بأنك صديقه".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة