تقسيم جديد لمناطق النفوذ.. هل تقود حرب أوكرانيا لـ«يالطا جديدة»؟

كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 بمثابة اختبار للنظام الدولي القائم وإلى أي مدى سيدافع الغرب عنه.
أما حرب أوكرانيا فقد أجبرت أوروبا على إعادة النظر في اعتمادها على الولايات المتحدة، وفرضت على القادة الأمريكيين إعادة تقييم رغبتهم في الالتزامات الخارجية كما دفعت الصين إلى دور جديد كداعم لروسيا، وجعلت دولًا على بُعد آلاف الأميال تُصارع أسئلة جوهرية مثل كيفية موازنة شراكاتها مع القوى الكبرى المُتحاربة؟
وبحسب مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية فقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تقليص مخاوف الغرب من اندلاع حرب عالمية أخرى، وهو ما دفع قادة الغرب إلى التسامح مع مناطق النفوذ السوفياتية في وسط وشرق أوروبا، وسط آمال القادة السياسيين والمحللين في أن تُقلل التعددية وجهود تحقيق الأمن الجماعي من أهمية التنافسات الجيوسياسية.
لكن الجغرافيا السياسية عادت سريعا إلى الديناميكية القديمة القائمة على القوة الصلبة بعد التأثير السلبي للأزمة المالية العالمية 2008، وتعزيز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لسلطته والتوسع السريع لنفوذ الصين العالمي.
وأشارت "فورين أفيرز" إلى عودة الدول الأكبر لاستخدام مزاياها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية لتأمين مناطق نفوذها.
ورغم أن حربًا عالمية أخرى لا تلوح في الأفق بعد، إلا أن المشهد الجيوسياسي اليوم يُشبه إلى حد كبير نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما سعى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين إلى تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ.
ومثلما أعاد قادة الحلفاء رسم خريطة العالم في مؤتمر يالطا عام ١٩٤٥، تسعى القوى الكبرى اليوم إلى التفاوض على نظام عالمي جديد مع العودة إلى المبدأ القديم القائل بأن "القوي يفعل ما في وسعه والضعيف يعاني ما يجب عليه".. وفي عالم كهذا، ستُهمّش المؤسسات متعددة الأطراف، مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي، وستُهدّد استقلالية الدول الأصغر.
وخلال العقدين الماضيين، كانت الدول التي تُحرّك عودة سياسات القوة يقودها زعماء يتبنون سردية "جعل بلادنا عظيمة مجددًا" مع المقارنة بين وضع حالي ملئ بالقيود التي فرضها خصوم أجانب أو محليون وماض متخيل أكثر حرية وملئ بالأمجاد.
ومع ذلك، لا يزال هناك مسار آخر محتمل، يتكيف فيه الاتحاد الأوروبي والناتو من خلال الاستمرار في العمل كقوة موازنة للولايات المتحدة وروسيا والصين.
كان مصطلح "مجال النفوذ" قد ظهر لأول مرة في مؤتمر برلين عامي 1884-1885، الذي وضعت خلاله الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية قواعد رسمية لتقسيم أفريقيا، لكن هذا المفهوم كان قد شكّل الاستراتيجية الدولية قبل ذلك بوقت طويل.
واستمر سعي القوى العظمى لإنشاء مناطق نفوذها خلال أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 مما أدى إلى تشكيل تحالفات جديدة واندلاع الحرب العالمية الأولى وبعدها كافحت دول مثل بريطانيا للحفاظ على مستعمراتها مع ظهور حق تقرير المصير والموجة المتصاعدة من المشاعر القومية.
ونظرًا للصلة الوثيقة بين "مناطق النفوذ" والاستعمار، فقد أصبح كلا المفهومين، بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، متخلفين، ومحفزين للصراع، وشهد مؤتمر يالطا عودةً للسياسة القائمة على مناطق النفوذ حيث تساهلت معها الدول الديمقراطية باعتبارها شرًا ضروريًا لمنع حرب عالمية أخرى.
وفي النصف الثاني من القرن الـ20، مارست الولايات المتحدة نفوذها من خلال هيمنتها على الثقافة الشعبية، وتقديم المساعدات الخارجية، والتعليم العالي، والاستثمار في المبادرات الخارجية وجهود إرساء الديمقراطية وروج الاتحاد السوفياتي للأيديولوجية الشيوعية من خلال شنّ حملات دعائية وتواصل أيديولوجي لتشكيل الرأي العام في دول نائية.
ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومع انحسار المعارك الأيديولوجية أمام تحرير السوق والديمقراطية والعولمة، بدا أن مجالات النفوذ فقدت أهميتها وافترض الخبراء أن السياسة العالمية ستتحول نحو الترابط الاقتصادي، مما يُظهر فوائد العمل الجماعي لحل المشكلات.
وألزمت الاتفاقية بين الناتو وروسيا عام 1997 الجانبين بعدم إقامة مناطق نفوذ والسعي إلى خلق "مساحة مشتركة للأمن والاستقرار في أوروبا".
لكن سياسات القوة بدأت بالظهور منذ وقت طويل مثل تدخل الناتو في كوسوفو عام ١٩٩٩ وغزو الولايات المتحدة للعراق عام ٢٠٠٣.
ومؤخرا، انخرطت الولايات المتحدة والصين في صراع على الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية العالمية، حيث فرضت واشنطن عقوبات على عمالقة التكنولوجيا الصينيين، بينما استثمرت بكين بكثافة في سلاسل التوريد البديلة ومبادرة الحزام والطريق ولجأت روسيا بفعالية إلى الحرب الهجينة لإضعاف الغرب.
وتُشير حرب أوكرانيا وشروط التسوية التي بدأت بالظهور إلى عودة أكثر وضوحًا إلى الجغرافيا السياسية على غرار القرن ال19 حيث تُملي القوى العظمى شروطها على الدول الأضعف فطالبت روسيا، إلى جانب وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، أوكرانيا بقبول الخسائر الإقليمية والبقاء خارج التحالفات العسكرية الغربية.
ورغم أن القوى الكبرى حاولت استخدام القوة لتحقيق أهدافها خلال العقود القليلة الماضية، إلا أن محاولاتها كانت تأتي بنتائج عكسية باستمرار فكان لتدخلات الجيش الأمريكي في أفغانستان والعراق وليبيا إخفاقات باهظة التكلفة.
ويتضمن إنشاء مناطق النفوذ قيام قوة مهيمنة بتقييد سيادة الدول المجاورة جغرافيًا مثلما يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى القيام به مع كندا وغرينلاند والمكسيك، ويعتمد النظام السياسي القائم على مناطق النفوذ على اتفاق ضمني بين القوى العظمى بعدم التدخل في مجالات بعضها البعض.
وفي سيناريو تتفق فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا على أن لها مصلحة حيوية في تجنب حرب نووية، يمكن أن يكون الاعتراف بمناطق نفوذ كل منها بمثابة آلية لردع التصعيد.
وقد تكون مفاوضات إنهاء حرب أوكرانيا بمثابة "يالطا جديدة"، لكن تقسيم مناطق النفوذ بدقة أصبح مشروعًا أكثر تعقيدًا مما كان عليه في يالطا حيث تنتشر اليوم الموارد الحيوية التي تحتاجها القوى الكبرى في جميع أنحاء العالم.
وحتى لو تعاونت أمريكا وروسيا والصين فستضطر الدول الأوروبية للاعتماد على نفسها، وقد تُجبر دول مثل ألمانيا وفرنسا على تطوير استراتيجيات أمنية مستقلة وتتجه دول أوروبا الشرقية، وخاصة بولندا ودول البلطيق، نحو التزامات دفاعية أكبر وبالمثل قد تنتهي الأهمية الاستراتيجية لحلفاء واشنطن في آسيا، مما يضطرهم إلى البحث عن ترتيبات دفاعية بديلة أو حتى التسلح النووي.
وتشير عودة مجالات النفوذ إلى أن طبيعة النظام العالمي قيد الاختبار وقد يؤدي هذا التحول إلى العودة إلى سياسات القوة التي سادت في عصور سابقة وع ذلك قد يعود النظام الدولي إلى القواعد بعد مروره ببضع دورات من الأزمات لكن حاليا لم تعد الولايات المتحدة عامل استقرار موثوقا به.