الباحث المصري أسعد سليم: أنزلت الفلسفة من برجها العاجي
المصري أسعد سليم يتحدث لـ"العين الإخبارية" حول كتابه "رواية الفلسفة" والتناص الذي خلقه بين تلك الرحلة السحيقة وبين مُعطيات علمية حديثة.
ينظر الكاتب والباحث المصري أسعد سليم إلى الفلسفة بعين السرد الأدبي، فاشتغل في كتابه الصادر أخيراً "رواية الفلسفة"، على الحكاية التي نسجت خيوط هذا العلم.
وانطلق "سليم" من أعتاب الميثولوجيا لدى اليونانيين، مروراً بنشوء فلسفات العصور الوسطى فعصر النهضة، وصولاً لأقطاب المدارس العقلانية والتجريدية والوجودية، وغيرها من المحطات التي وجد في كل منها مادة غنية للسرد الموصول بالتأمل.
والكاتب أسعد سليم، مواليد 1977، وهو باحث في مجالات الفلسفة والفكر وتاريخ الأديان، ويُعد كتابه "رواية الفلسفة"، الصادر عن دار "المثقف" بالقاهرة، هو الإصدار الأول له ضمن مشروع سردي يتواصل مع محطات الفلسفة الإسلامية والفلسفة المعاصرة.
"سليم" تحدث لـ"العين الإخبارية" حول كتابه "رواية الفلسفة" والتناص الذي خلقه بين تلك الرحلة السحيقة وبين مُعطيات علمية حديثة، وسياقات اجتماعية مُعاصرة أشار لها بكتابه، في سياق الحوار التالي..
وراء كل رحلة قصة شغف.. ماذا عن شغفك الخاص وراء تلك الرحلة حول الفلسفة؟
كان شغفي الأول ولا زال هو طرح الأسئلة، وبالأخص ذلك السؤال الذي لا تبدو له إجابة واضحة يقينية محددة؛ أسئلة الطفولة التي لا نجد لها جواباً.
لا أسرة ولا مدرسة ولا رجل دين أزال حيرتي حول نشأتنا نحن البشر، من أين جئنا وإلى أين نحن ذاهبون؟ ذلك السؤال الأبدي المعلق في الهواء الطلق.
من هنا ذهبت إلى الفلسفة آملًا أن أجد فيها ما يريح عقلي، ويطمئن قلبي ويلهمني اليقين المفقود، لكن هيهات، فكلما أجابت الفلسفة عن سؤال من جانب، تفتح بابا لا يمكن إغلاقه بطرحها العديد من الأسئلة على الجانب الآخر، وتلك روعتها وجمالها.
بدأت كتابك بانتقاد ما يُطلق عليه "غرور المصطلح" أو ارتباط الفلسفة بفكرة الحذلقة، ومن ثم حاولت تجنبه، لماذا انحزت لهذا الخِيار في سردك؟
كل ما كان يؤلمني ويشغل ذهني لماذا الفلسفة، وهي أم العلوم كلها، تأخذ هذه السمعة السيئة؟ حتى أصبحت راسخة في اليقين الشعبي أنها الثرثرة التي بلا معنى.
بحثت في تلك المسألة فوجدت أن أحد أسبابها هو الثوب الذي تقدم فيه، اللغة، كم من الجرائم ترتكب باسمها بالتحذلق والإبهام والغموض الذي لا بد منه، كي ينال الكاتب شهادة الأوساط الثقافية واعترافها.
وحينما ألممت بتفاصيل الفلسفة ومصطلحاتها الأكاديمية شخصت المرض بأنه "غرور المصطلح"، الذى يسير ورائه المشتغل بالفلسفة ويشعر بالنقيصة والاستهجان إن استعان بمفردة بسيطة موازية شارحة، فقررت تنزيل الفلسفة من برجها العاجي والأكاديمي، باختيار طريقة سرد مبسطة لكنها في الوقت ذاته لا تخل بالمعنى الكلى العام.
بدأت رحلتك من بوابة الميثولوجيا الإغريقية.. ماذا عن خروج الفلسفة الأول من رحم الأساطير القديمة، قبل أن تصير علماً له أصول؟
كانت الأساطير اليونانية القديمة تلهب خيال اليونانيين، لكنهم وجدوا أن الآلهة التي يبجلونها ويعظمونها ضعيفة، لا تملك من أمرها شيئاً، وكان للشعر دور كبير في إيقاظ ذلك المعنى والتأكيد عليه خصوصًا أشعار "أورفيوس".
كما أن العقل، ذلك الجهاز الجبار الذي خلق كل تلك الآلهة، هو ذاته الذي انقلب عليها ساعياً وراء يقين جديد عله يجد عنده استكانة، فيكف عن العصف الذهني الذي يمارسه ليل نهار.
وخُلد "طاليس" كأول فيلسوف في التاريخ في القرن الـ6 قبل الميلاد، حيث نحى بعقله جانباً متأملا الكون والحياة، متوصلاً إلى أن الماء هو المادة الأولية للكون، وهو أصل كل الأشياء، وأن الأرض تعوم فوق بركة من المياه.
لقد فتح طاليس باب الفلسفة الواسع أمام العقول المتأملة، فخطى الفلاسفة من بعده خطوات هائلة، ونشأت ما تعرف بالفلسفة اليونانية الكلاسيكية.
في الكتاب تناص بين الفلسفة القديمة وبين لمحات علمية حديثة كالحمض النووي.. صف لنا هذه العلاقة التي اقتربت منها ببحثك
الفلسفة هي أم العلوم، وطالما كانت تسبق العلم بخطوات فتزيل العثرات من طرق العلماء، فببساطة شديدة، معظم التطبيقات العلمية التي نستخدمها الآن بين أيدينا هي بالأساس أفكاراً فلسفية مجردة، أتى العلم فأثبتها رياضياً وتجريبياً.
ذلك فالعلماء أنفسهم هم من كانوا يحفزون الفلاسفة على الابتكار والتأمل واستنباط الجديد، كان هذا يتم في الماضي، أما الآن فالفلسفة غارقة في قضايا معرفية، وتخطاها العلم بقفزات كبيرة، فالعلم لا يخجل أن يكذب نفسه بالتجديد والتطوير المستمر، والفلسفة دورها الرئيسي هو تحليل ومناقشة وتركيب الفهم المجتمعي السائد.
كيف استطعت الربط بين حوادث فلسفية قديمة وأحداث جرت بعدها بآلاف السنين؟
نحن لا نتعظ من تاريخنا، ولا نكترث لحاضرنا، فيبدو لنا المستقبل قاتماً، "سقراط" قُتل لأنه أراد تنوير اليونانيين، والفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو تم إحراقه حياً لكونه تجرأ وافترض وجود كواكب ومجرات أخرى.
و"جاليليو" الفلكي الأعظم تم تحديد إقامته الجبرية بمنزله، وعدم جواز مناقشة أفكاره حول نظرية مركزية الشمس التي تبدو لنا الآن شيئًا طبيعيًا ويسيرًا.
كل هذه التضحيات وغيرها الكثير والكثير لم تلهمنا شيئا، فتم طعن نجيب محفوظ، وإبعاد نصر حامد أبوزيد، وقتل فرج فودة، وإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً، الرابط التاريخي والموقفي هو من فرض نفسه عليّ فرضاً، آملًا ومتأملًا اكتشاف أن القتل والطعن والحرق والإبعاد ليس حلاً، فالأفكار الأصيلة تظل راسخة حتى لو وأد صاحبها، الحوار هو الطريقة الوحيدة لإنتاج أمة ناهضة.
كيف تتبعت رموز رحلة تاريخ الفلسفة من أرسطو حتى جان بول سارتر، بصورة تقترب من ملامحهم الإنسانية والسياقات الاجتماعية التي عاشوها؟
عاشت أوروبا ألف عام من الظلام في القرون الوسطى، ووصلت لانحطاط بدا ألا فكاك ولا مهرب منه، لكنهم فعلوها، وقاموا ببعث الأفكار الفلسفية القديمة، وتم الأخذ منها والبناء عليها، حتى استطاعوا أن يصلوا للتطور الحضاري الذي نغبطهم عليه الآن، فلما لا نفعلها أيضاً.
قررت إعادة عرض المدارس الفلسفية وتاريخها بأكمله علناً، لنجد فيها ما يفيدنا ويغير بعضاً من قناعتنا، ويحرك المياه الراكدة، وتحل الكلمات بدلًا من الطلقات في حواراتنا.
على مدار رحلتك وأنت تنظر للقارئ وتوجه له الحديث.. ماذا أردت أن تقول له؟
ما كنت أرجوه أن يشعر القارئ بأهمية الفلسفة، وبدورها التاريخي في نهضة الأمم، والدعوة الواجبة اللازمة لإعمال العقل، وفتح الأبواب المغلقة حول كثير من الأمور التي نعتقد أننا نملك مفاتيحها وأسرارها وحقائقها.
لا يوجد نوع من المعرفة لا يقبل الشك وعليه إجماع، وكثير من يقيننا الذى يسكننا لو عرضناه للبحث والفحص لاكتشفنا أنه مشبع بالتناقضات، يجب أن تتغير عقلياتنا وتصبح أكثر انفتاحاً لتقبل الرأي الآخر مهما كانت غرابة أطواره.
ما أبرز التحديات التي واجهتها في هذا الكتاب؟
التحديات كانت كثيرة جداً، لكنها كانت ملهمة في الوقت ذاته، أنا من أولئك الأشخاص الذين تُحركهم الصعاب، قراءة مئات من المجلدات الفلسفية ليس بالأمر الهين، ومحاولة تبسيطها دون تسطيحها لهو أمر معقد.
وأسلوب السرد الأدبى الذي اخترته أو بالأحرى اختارنى لم يكن يسيرًا هو الآخر، فهم المصطلحات والأفكار العميقة لكل مدرسة فلسفية ووضعها في قالب أدبي في سطور قليلة كان هو التحدي الأكبر.
هل فكرت أن يكون هذا الكتاب عتبة لمؤلفات أخرى في الفلسفة والتنوير؟
بالفعل سيتبع "رواية الفلسفة" تغطية الفلسفة الإسلامية في كتاب منفصل، ثم تطورات الفلسفات المعاصرة، وعلاقتهم بالفن والعلم والأديان.
كيف ترى نُدرة المواد والنصوص المرتبطة بالفلسفة؟
نعيش زمنًا لا ينتعش فيه إلا ما أسميه بـ"الفن الموازى"، وهو المصطلح المقابل للفن الرفيع، فالسينما والموسيقى والأدب منكوبة بفعل الذائقة التي تم العبث بها، وحبسها بتلك المناطق الرديئة.
ودورنا جميعاً هو محاولة إخراجها من سجنها، وتشكيلها بما يتناسب مع قيمنا وآمالنا، حتى لا يصبح القبح جمالًا في عيون كثيرين، والأوساط الثقافية سيكون عليها العبء الأكبر للخروج من المأزق الراهن، وكتابي القادم سيكون في تلك المنطقة.
aXA6IDMuMTQ1LjU4LjE1OCA= جزيرة ام اند امز