بدأت في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم الأربعاء الماضي 16 أغسطس مباحثات إعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية
بدأت في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم الأربعاء الماضي 16 أغسطس مباحثات إعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا)، والتي تضم كلا من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وتكتسب هذه المباحثات أهميتها من الأولوية التي وضعها الرئيس الأمريكي لقضية تسوية العجز التجاري وآثاره على المواطنين الأمريكيين في برنامجه ودعايته الانتخابية.
فقد عبر ترامب في العديد من خطاباته أثناء حملته الانتخابية عن عدم رضاه عن الاتفاقات التجارية الدولية التي تشارك فيها بلاده لكونها اتفاقات مجحفة، إذ في رأيه اتسمت المنافسة التجارية بعدم العدالة ولجأت الكثير من الدول إلى التحايل لتحقق فائضا تجاريا، مما يلحق الضرر بالاقتصاد الأمريكي ويعوق نموه وازدهاره.. وعلاوة على معاناة الولايات المتحدة من عجز ضخم في ميزانها التجاري، فإن هذه التجارة غير العادلة تسلب أيضا الكثير من فرص العمل التي كان ينبغي توفرها للأمريكيين، وتقدر الإدارة أن الولايات المتحدة خسرت نحو 700 ألف فرصة عمل لصالح شركائها في النافتا وخاصة المكسيك، مع انتقال العديد من الصناعات الأمريكية إليها.
وأعرب ترامب أثناء حملته الانتخابية عن إيمانه بأن النافتا كانت أسوأ اتفاق تجاري في التاريخ، ومن بين الإجراءات التي أعلن أنه سيقدم عليها في حال انتخابه المبادرة إلى إبلاغ شركاء الولايات المتحدة في النافتا (كندا والمكسيك) بعزمه إعادة التفاوض فورا حول الاتفاقية للحصول على صفقة أفضل للعمال الأمريكيين.. وأوضح أنه لا يعني بهذا الحصول على صفقة أفضل بقليل مما هو قائم، ولكنه يعني صفقة أفضل كثيرا من الوضع الحالي، وإذا لم يستجب هؤلاء الشركاء لإعادة التفاوض، فحينها سيقوم بتقديم إشعار بموجب المادة 2205 من اتفاقية النافتا، باعتزام أمريكا الانسحاب من الاتفاق.
وبداية ينبغي ذكر أن كندا والمكسيك تحتلان مرتبة ثاني وثالث أهم شركاء أمريكا التجاريين بعد الصين الشريك التجاري الأول، ويصل حجم التبادل التجاري (السلعي والخدمي) بين بلدان النافتا الثلاثة إلى نحو 1.2 تريليون دولار.. وتحقق الولايات المتحدة عجزا كبيرا في تبادلها التجاري السلعي مع المكسيك بلغ أكثر من 63 مليار دولار خلال العام الماضي (تنخفض إلى 50 مليار دولار إذا ما أخذت التجارة في الخدمات بالاعتبار)، بينما التجارة مع كندا أكثر توازنا حيث لا يزيد العجز الأمريكي في التجارة معها على 11 مليار دولار، لهذا يشير بعض المراقبين إلى أن التركيز في إعادة التفاوض هو على العجز التجاري المحقق مع المكسيك، وتنطلق الإدارة الأمريكية من حقيقة أهميتها كسوق بالنسبة للبلدين الآخرين، إذ أن نحو 75% من إجمالي الصادرات الكندية، و80% من تلك المكسيكية تذهب لهذا السوق.
ورغم لغة ترامب التي كانت مليئة بالتهديد والوعيد إبان الحملة الانتخابية، إلا أن البعض يشير إلى أن هذه اللغة تغيرت مع دخوله للبيت الأبيض وبداية اطلاعه على الحقائق ومواجهته للمصالح الأمريكية القائمة التي قد يصيبها الضرر من أي تهور في هذا المجال. ويتفق الأطراف الثلاثة على ضرورة إعادة التفاوض لتحديث اتفاقية النافتا لأنه مضى على دخولها حيز التنفيذ 23 عاما جرى فيها الكثير من التطورات في مجال التجارة الدولية في ظل تنامي الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية.. أما فيما عدا هذا الاتفاق العريض فيشير كل من كندا والمكسيك إلى ضرورة الحفاظ على العلاقات التجارية وتنميتها، بينما ما زال ترامب يتطلع للحصول على تنازلات منهما تتيح تخفيف العجز التجاري ليوفي بوعوده التي أطلقها بتوفير المزيد من الوظائف الصناعية للعمال الأمريكيين.
ويمكن القول بأن العديد من الظروف الموضوعية المتعلقة باتفاقية النافتا قد تقلص إلى حد كبير من الآمال التي يتطلع لتحقيقها ترامب مع إعادة التفاوض حولها، ويأتي على رأس هذه الظروف حقيقة أنه خلال العام الماضي احتلت كندا مرتبة ثاني أهم سوق للصادرات الأمريكية، بينما احتلت المكسيك المرتبة الثالثة، فإذا كانت الواردات السلعية الأمريكية من البلدين بلغت نحو 572 مليار دولار، فإن صادراتها بدورها بلغت نحو 498 مليار دولار، والأكثر أهمية أنه في مجال التجارة تحديدا مع المكسيك سيلحق فرض أي إجراء عقابي تجاه الصادرات المكسيكية ضررا مماثلا بالصادرات الأمريكية للمكسيك، فجزء كبير من الصادرات المكسيكية للولايات المتحدة هي عبارة عن أجزاء من السلع الأمريكية يتم نقلها إلى داخل المكسيك لإجراء بعض العمليات الصناعية عليها استفادة من رخص الأيدي العاملة مقارنة بالعمالة الأمريكية.
وتكفي نظرة على التبادل التجاري بين البلدين لتوضيح ما سبق؛ فخلال عام 2015 كان ما يزيد على 45% من الصادرات الأمريكية للمكسيك من الآلات والآلات الكهربائية والمركبات، كما كان أكثر من 60% من الواردات الأمريكية من نفس السلع بعد إجراء بعض عمليات صناعية عليها.. ويقدر بعض الاقتصاديين الأمريكيين أن نحو 40% من قيمة الواردات الأمريكية من المكسيك هي ذات منشأ أمريكي، وبالتالي فأي إجراء عقابي ضد هذه الواردات سيطال في نفس اللحظة الصادرات الأمريكية أيضا.. أضف إلى ذلك أن الأثر النهائي لفرض أي إجراء عقابي مثل فرض رسوم جمركية مثلا، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه السلع في السوق الأمريكي مما يضر برفاهة المستهلك الأمريكي، وهو ما سيلقى باللوم فيه على الرئيس ترامب نفسه.
إضافة إلى ذلك لا يمكن تجاهل الردود الانتقامية التي قد تلجأ إليها كندا والمكسيك في حال فرض أي إجراء عقابي ضد صادراتهما، وخاصة في قطاعات سلعية محددة؛ إذ تستوعب كندا والمكسيك على سبيل المثال نحو ثلث الصادرات الزراعية الأمريكية، وحيث تدر صادرات مثل الذرة ومنتجاتها أكثر من 30% من دخل المزارعين الأمريكيين، وتعد المكسيك السوق الأكبر لهذه الصادرات، كما أن كندا سوق رئيسي للذرة والميثانول الأمريكيين، وقد لوحت المكسيك بأنها تنظر في أمر استيراد الذرة، بل والحبوب الأخرى من مصادر بديلة كالأرجنتين والبرازيل، ومن هنا سيواجه ترامب باعتراض كبير من قبل لوبي المزارعين وخاصة مزارعي الذرة إذا ما لحق أي ضرر بمصالحهم، أيضا من النشاطات الأمريكية التي ازدهرت مع النافتا الصادرات من لحوم الدواجن حيث يستوعب السوقان الكندي والمكسيكي نحو 40% من هذه الصادرات.
خلاصة القول إن إعادة التفاوض حول اتفاقية النافتا ليس أمرا بسيطا وذا اتجاه واحد، وربما يحصل ترامب على بعض التنازلات من قبل الشركاء في الاتفاقية، ولكن الأرجح أنها ستكون تنازلات أقل بكثير مما وعد به المواطن الأمريكي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة