إذا أرادت الدول الإسلامية أخذ اتجاهات تنموية عليها بشكل أساسي ضبط الانفلات الخطابي بالمجال الديني من منصات إفتاء، ومنابر خطابة.
يمكن للمتابع رصد الفوضى المرتبطة بإصدار الأحكام الفقهية خلال السنوات القليلة الماضية؛ المدّ الثوري، وتشكيلات الحركات الأصولية، والانتعاش المتصاعد لجماعات الإسلام السياسي، كل ذلك رافقه تهشّم هياكل دول عديدة واضطراب مؤسساتها وانهيار علاقاتها حتى باتت مساحات كبرى من المنطقة تدار من قبل مليشيات، وبعض الدول. وبرغم تاريخها المضيء تفقد يومياً شرطاً من شروط تشكل الدولة لتفقد لاحقاً صفة «الدولة»، وتدخل في تاريخ مظلم، حيث ينصاع حتى المسؤولون في تلك البلاد إلى أمر الولي الفقيه. ولكن الأخطر من كل تجارب إصدار الفتاوى والأحكام لدى «داعش» و«القاعدة» ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين من تأسيس مجاميع فقهية حركية تدعي نيابتها عن الأمة، محاولة كسر المؤسسات الدينية في كل دولة، بغية نشر الفتاوى الكارثية، واستصدار الأحكام الإرهابية.
هذا التأسيس يحاصر الفتاوى الفوضوية الصادرة عن الجهلة والمتطرفين، ويعيد للفقه اسمه ويصحح رسمه، بعد أن دخل فيه الكثير من المعاتيه؛ فالتصدر للفتوى له شروطه، وليس كل من حفظ الشريعة أو بلع المتون واستظهر الأحاديث يمكنه إصدار الفتاوى
والمبشّر بالخير في ظلّ كل تلك الفوضى التوجهات من دول معتدلة لتعزيز عمل المؤسسات الدينية المحلية وتجديد دمائها، بما يتجاوب وحركة الحياة وتجدد الأحداث، وقد أصدر مجلس الوزراء الإماراتي قراراً في 25 يونيو (حزيران) بتشكيل مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي برئاسة الشيخ عبد الله بن بيه.
هدف المجلس، كما نقلت وكالة الأنباء الإماراتية، «توحيد الجهود والرؤى والأهداف لتنظيم عمل الجهات الحكومية والمؤسسات والأفراد الخاصة بشؤون الفتوى الشرعية. ويختص المجلس بإصدار الفتاوى العامة الشرعية في الدولة، وذلك في المسائل والموضوعات المختلفة، أو بناءً على طلب من الجهات الحكومية الرسمية أو المؤسسات أو الأشخاص، والترخيص بممارسة الإفتاء الشرعي في الدولة، وتأهيل المفتين وتدريبهم، وتنمية مهاراتهم، إضافة إلى إصدار الدراسات والأبحاث الشرعية ذات الصلة بمختلف مجالات التنمية، والإشراف على مركز الفتوى في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، فيما يخص الفتاوى الشرعية الصادرة عنه».
هذا التأسيس يحاصر الفتاوى الفوضوية الصادرة عن الجهلة والمتطرفين، ويعيد للفقه اسمه ويصحح رسمه، بعد أن دخل فيه الكثير من المعاتيه؛ فالتصدر للفتوى له شروطه، وليس كل من حفظ الشريعة أو بلع المتون واستظهر الأحاديث يمكنه إصدار الفتاوى، بل ثمة شروط شخصية تتعلق بملكة الفهم والإلمام بإشارات الشريعة ومقاصدها، والتمتع بالحكمة الشخصية. ويمكن التذكير بصفات وضعها الإمام الجويني في كتابه: «غياث الأمم في التياث الظلم». ويلخص مثله عن أئمة آخرين عبد المجيد الصغير في كتابه «الفكر الأصولي» قائلاً: «إن كتب الفقه والفتوى تشترط هي الأخرى في حملة الشريعة والمتصدرين للإفتاء صفات تجمع بين التبحر في علوم العربية، والإحاطة بآيات الأحكام، ناسخها ومنسوخها، ومعرفة السنن، والتبحر في معرفة الرجال وطرق الجرح والتعديل، إضافة إلى معرفة تامة بالخلاف بين العلماء في العصور الخوالي، فإحاطة بطرق القياس ومراتب الأدلة، علاوة على صفة الورع والتقوى والالتزام بهما في كل آن، وذلك معنى قول الجويني حاكياً عن القدماء: إن حملة الشريعة والمستقلين بها هم المفتون المستجمعون لشرائط الاجتهاد من العلوم الضامون إليها التقوى والسداد».
إن الكثير من الخراب الذي حلّ بواقع المسلمين اليوم مردّه إلى التجديد الفقهي من خلال النظرة الحركية كما فعل البعض في أحكام كثيرة، ومنها شطحاتهم في الرأي حول الجهاد، وقد تبع هذا البعض جموعُ الغلاة والمنظرين الحركيين أمثال سيد قطب.
بآخر المطاف إذا أرادت الدول الإسلامية أخذ اتجاهات تنموية عليها بشكل أساسي ضبط الانفلات الخطابي بالمجال الديني من منصات إفتاء، ومنابر خطابة، وبرامج إعلامية تصف نفسها بأنها دينية شرعية وهي حركية أصولية خالصة، ومن دون هذا الضبط فإن التجارب المريرة ستتكرر، وتجربة الإمارات هذه جديرة بالإشادة والإفادة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة