قبل بضعة أيام أعلن رئيس الوزراء العراقي «حيدر العبادي» دحر تنظيم "داعش" الإرهابي من جميع الأراضي العراقية.
قبل بضعة أيام أعلن رئيس الوزراء العراقي «حيدر العبادي» دحر تنظيم "داعش" الإرهابي من جميع الأراضي العراقية، والمؤكد، ونحن نبارك للشعب العراقي الشقيق خلاصه من طاعون القرن العشرين، نتساءل: ما الذي قصده العبادي بقوله «سنبقى في حالة تأهب لمواجهة أي عودة للإرهاب لأن المعركة مستمرة»؟ يمكن للإجابات أن تمضي في طرق شتى، لكن الطريق الذي يهمنا الإشارة إليه بنوع خاص هو طريق الداخل العربي والإسلامي، وهل يحتاج إلى إعادة تعبيد ما يقي السائرين عليه الوقوع في فخاخ الإرهاب ومصائد الإرهابيين؟
يمكن القطع بأن العنف والميل إلى القسوة ظاهرة إنسانية عرفتها مجتمعات عديدة قبل العالم العربي والإسلامي، وليس أدل على ذلك من الوضع في أوروبا إبان القرون الوسطى، فيما كانت السلطات الدينية تبطش بطشاً بالمختلفين معها عقائدياً، وقد بلغ الأمر بالحروب الدينية الأوروبية أن استمرت نحو ثلاثين عاماً، قبل أن تظهر بوادر التنوير، وينبلج فجر النهضة تلك التي أعطت ما لله لله وأعادت لقيصر ما لقيصر، ولم يكن ذلك ليحدث من دون مراجعة معمقة للخطاب الديني السائد في أوروبا وقتها.
ولعل لناظر لتلك المراجعات يدرك لماذا تجاوزت أوروبا الأزمة التي نعيشها عربياً في حاضرات أيامنا، ومدى الحاجة الملحة إلى إعادة قراءة جذرية للكثير من الخطاب الديني، وفض إشكالية الصراع القائم بين التراث والحداثة وبين الأصالة والمعاصرة.
معركة إعادة تجديد الخطاب الديني في عالمنا العربي والإسلامي أضحت مثل كثير من المعارك الأخرى معركة حياة أو موت تحتاج رؤية وأدوات واستراتيجية تعزف على العقل والنص والأدوات، وفي إطار عام ينشد صالح العرب في القرن الحادي والعشرين
لكن عن أي تجديد نتكلم، هل عن المظهر دون المخبر، والشكل دون المحتوى؟ الشاهد أن التصدي لطرح التجديد مسألة ليست يسيرة لا سيما أن الناس عادة ما يكونون محكومين بالموتى «كما يقول المفكر الأيرلندي الكبير» أدموند بيرك «1729-1797 في كتابه "تأملات حول الثورة الفرنسية".
في هذا السياق، يتذكر المرء مقولة شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال بأن "الكعبة لا تجدد بجلب حجارة لها من أوروبا"، والمعنى هنا واضح، إذ لا تقوم حضارة بالاستعارة، إنما بالإبداع والتجديد النابع من حاجات المجتمعات وصالح ومصالح مواطنيها، هنا تبقى قضية تجديد الخطاب الديني في العالم العربي قضية ملحة، وفي حاجة إلى اصطفاف مجتمعي، إذ لا يكفي أن يرتبط سياقها بالمؤسسات الدينية فقط، لا سيما في زمن العولمة، وتداخل الخيوط وتشابك الخطوط بين الإعلام والاقتصاد والثقافة والاجتماع.
عرفت الحضارة العربية فترات ازدهار سادت فيها العالم بأكمله حينما تم ضبط إيقاع هذا الخطاب لتعلو فيه النبرة الإنسانية على النبرة الطائفية، وزمن هارون الرشيد شاهد على ما نقوله حين كان النصارى واليهود العرب لهم ما لهم من أهمية وحضور في بلاط الخليفة، ولهذا كانت لغة العنف والإرهاب والقتل والدمار تتوارى، وتحل محلها لغة العقل والعمل العقلاني، فترجم النصارى العرب علوم اليونان إلى اللغة العربية، وتالياً شرحوا ما ترجموه، وثالثاً كتبوا المؤلفات وتركوا للمكتبة العربية معيناً لا ينضب من الفكر الإنساني البعيد عن إدارة التوحش، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تأخذ أوروبا عن علوم العرب، وتبني لاحقاً حضارة فارقتنا بخمسة قرون على أقل تقدير.
وقت كتابة هذه السطور، يستعد العالم الغربي لاحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، فيما تتوالى بيانات وإنذارات "داعش" للأوروبيين وللمسيحيين في عالمنا العربي مهددة بالويل والبثور وبشائع الأمور، وعليه تضحى فرحة العراق بالقضاء على "داعش" فرحة منقوصة، ذلك لأن أحد أهم أركان القضاء عليه قضاءً مبرماً لا يزال يعيش بين جنباتنا مختبئاً في بعض الكتب تارة، فيما البعض الآخر يعمد إلى وسائل التواصل الاجتماعي ليجعل منها "منبراً" يبث من خلاله جهالاته وسمومه، ولعل الكارثة لا الحادثة أن هناك من القوى الخارجية، والتي لا تحمل في صدورها خيراً للعرب ولا للمسلمين، تشجع على تنامي تلك التيارات الظلامية سراً وعلانية، وهي تدرك تمام الإدراك أن الأصوليين يقدمون لها أفضل خدمة، ويوفرون عليها معاناة الحروب التقليدية، ومن خلالهم تدور حروب الجيل الخامس، حيث تهدم الدول، ومن أسف شديد بأيدي أبنائها، ومن دون أن تطلق عليها رصاصة واحدة على الحدود.
لم تعد قضية تجديد الخطاب الديني مسألة داخلية وحسب، لا سيما أن هذا الخطاب قد بات مفرخة للعديد من الإرهابيين حول العالم، وفي أوروبا بنوع خاص تلك التي خبرت المشهد المؤلم عبر الدهس بالشاحنات والطعن بالسكاكين، ولم تعد عبارة «هؤلاء غير مسلمين ولا علاقة لهم بالإسلام تكفي لنفض اللوم عن أثوابنا والغبار عن أرجلنا»، معركة إعادة تجديد الخطاب الديني في عالمنا العربي والإسلامي أضحت مثل كثير من المعارك الأخرى معركة حياة أو موت تحتاج رؤية وأدوات واستراتيجية تعزف على العقل والنص والأدوات، وفي إطار عام ينشد صالح العرب في القرن الحادي والعشرين.. هل لهذا تنبأت مؤخراً مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية بأن إرهاب "القاعدة" سيعود، وأن جيلا جديدا من الإرهابيين أكثر ميلاً للعنف من "داعش" سوف يولد؟
يحتاج الجواب لمجموعة إدارة أزمة من الحكومات وجماعات المجتمع المدني، وخبراء الاجتماع والسياسة والأمن.. إنه مستقبل أمة، فإما أن يولد في النور، أو علينا انتظار الأسوأ الذي لم يأت بعد.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة