لم تخفِ عواصم الغرب بهجتها بوصول بايدن إلى سدة الرئاسة الأمريكية .
بعد أربع سنوات "ترامبية" أقل ما يهجس به لسان حال صناع القرار الأوروبي أنها كانت بالنسبة لهم أشبه بسفينة تُلاطم أمواجاً عاتية.
التهليل الأوروبي لخصه موقف المفوضية الأوروبية حينذاك "صار لدينا صديق لمدة أربع سنوات في البيت الأبيض". عملياً؛ أرخى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ظلاله على مجمل السياسات الأوروبية حيال قضايا تخص الشأن الأوروبي لكنها مرتبطة بمصالح واشنطن بطريقة أو بأخرى، وهيمن بوضوح على توجهات سياسة الغرب الخارجية وخياراتها في تعاطيها مع عدد كبير من القضايا الدولية التي ترتبط عضوياً بمصالح القارة الأوروبية وأبرزها العلاقة مع روسيا. بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، ظلت تنوس بين الإقدام على رفع راية التحدي بوجه موسكو في بعض القضايا، وبين التعبير عن مواقفها غير الودية تجاهها بطريقة دبلوماسية ناعمة وخففت خلال الولاية الترامبية من الانحياز التام إلى جانب واشنطن في مغازلة الكرملين، لكنها ظلت محافظة على مقارباتها السياسية والاقتصادية لروسيا دون تصعيد.
من الواضح أن الغرب اختار تفعيل موقفه المناهض للسياسات الروسية في بعض الملفات من خلال اللجوء إلى سياسة العقوبات "الجديدة – القديمة" بعد أن اتخذت واشنطن - بايدن عدداً من القرارات العقابية ضد روسيا؛ رسالة بدلالتين: الأولى أن بروكسل عادت للتماهي المعلن مع التوجه الأمريكي ومقارباته للعلاقات مع الروس، والثانية أن الأوروبيين لم يدفنوا ملفات الخلاف المتراكمة مع موسكو؛ من أوكرانيا إلى القرم إلى جورجيا وأبخازيا وأوسيتيا، إلى ملفات الاقتصاد وعلى رأسها الغاز والطاقة فضلا عن ملفات داخلية تهتم بها أوروبا كملف حقوق الإنسان، وصولا إلى نسخته الجديدة، أي المعارض أليكسي نافالني. التموضع الأوروبي الجديد، سياسياً، ضمن مضمار التنافس والصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية عززه رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل بجولة في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، مولدوفا، وجورجيا، وأوكرانيا.
مناخ التوجس متبادل؛ أوروبا، غربها وشمالها، تتوجس من الغريم الروسي منذ قرون خلت حين كانت روسيا في عهدة قياصرتها، إذ يروي التاريخ عن تلك الحقب أن روسيا شكلت على الدوام تحدياً للدول المجاورة لها بما فيها الدول الإسكندنافية، وهاجساً مقلقاً يبدو أنه يعشّش في لا شعور الأوروبيين حتى يومنا هذا، وهو ما يفسر صياغة الأوروبيين لما يسمونه "مبادئ التعاون مع موسكو" كخارطة طريق لرسم السياسات والتوجهات الاستراتيجية عند التعامل مع الروس. موسكو متأهبة دائماً لخطر تراه وشيكا من عدوها الناتو، ورغم كل ذلك يحرص الطرفان الأوروبي والروسي على عدم الانزلاق إلى مواجهات واسعة، مع قناعة كل منهما بأن بذور الصراع تتغذى من مسارب كثيرة ذاتية وخارجية، لكن المواقف التصعيدية من كلا الجانبين مؤخراً على خلفية العقوبات الأوروبية والأمريكية على موسكو توحي بأن أزمة عميقة تلوح في أفق علاقاتهما بعد عودة الانسجام والتجانس بين بروكسل وواشنطن، وقراءة موسكو لهذا التقارب والتناغم من نافذة الضغوط الجماعية عليها.
مدارات العلاقات الروسية الأوروبية واسعة ومتعددة ومؤطرة، ضمن سياق ما يعرف بـ"الحوار السياسي بين روسيا ومؤسسات الاتحاد الأوروبي"، وهو بمثابة قنوات حوار بينهما، وتحتفظ موسكو بعلاقات متوازنة على المستوى الثنائي مع بعض الدول الأوروبية، لكنها تفترق معهم حين يتعلق الأمر بالأوروبيين ككتلة واحدة تحت راية الاتحاد الأوروبي.
في جميع الأحوال؛ يتفق عقلاء الجانب الأوروبي على أن الحوار مع روسيا أفضل من استبعادها لأنه يسمح على الأقل بنطاق تعاون محدود بدل أن يدفع الأمور نحو تعقيدات غير مرغوبة، ويصرون على المضي قدماً بالحوار مع موسكو بشأن أكثر الملفات تعقيداً بالنسبة لهم وهي أوكرانيا التي تتصدر جدول أزمات الجانبين، حيث يعتبرها الروس منطقة نفوذ حيوي ويتمترسون خلف حائط صد أمام ما يعتبرونه زحفاً متأنياً للناتو باتجاه إحدى حدائقهم الخلفية، بينما يسعى الجانب الأوروبي لانتزاعها كاملة من الحضن الروسي ودمجها في هياكل ومؤسسات الاتحاد الأوروبي.
التجارب التي عاينها الأوروبيون مع بوتين أفصحت عن حقيقة ملموسة مفادها أن سيد الكرملين لم يتردد خلال عقدين من الزمن في استخدام القوة، وأحيانا القوة المفرطة كما حدث ضد جورجيا 2008، عندما يشعر أن خطراً داهماً يتربص ببلاده أو بمناطق بيئته الاستراتيجية.
يعتقد كل طرف بوجود تهديد استراتيجي له من الطرف الآخر، وكلاهما يبدي في الآن ذاته الرغبة في الوصول إلى تفاهمات واتفاقات شراكة سياسية واقتصادية وأمنية واستخباراتية؛ الاستراتيجية الروسية في التعامل مع الغرب تقوم على اعتقاد راسخ بأن أوروبا تعني حلف شمال الأطلسي ببنيته العسكرية والأيديولوجية المعادية لروسيا. الاستراتيجية الغربية نابعة من اعتقاد راسخ بأن روسيا سليلة الاتحاد السوفيتي السابق ووريثته الشرعية ببناه العسكرية والأيديولوجية المعادية للغرب عموما؛ معادلة محكومة بتراكمات تاريخية ستبقى مؤثرة في مجريات التنافس والصراع بينهما، لكن في الآن ذاته لا تلغي معطى جيواستراتيجياً متبادلاً؛ فروسيا بثقلها العسكري والاقتصادي وقربها الجغرافي من القارة الأوروبية ومخزونها الهائل من الغاز الطبيعي يمكن أن تشكل رافداً وعمقاً مهماً للأوروبيين، مقابل أهمية أوروبا بحواملها الجغرافية والعسكرية والاقتصادية وأسواقها المفتوحة لروسيا وما يمكن أن تقدمه من دعم وإسناد لها، إذاً لماذا تتجهان إلى التصعيد؟ ببساطة إنه العامل الأمريكي مضافاً إلى ما سبق من محفزات الصراع، وهو مصدر التأثير سلباً أو إيجاباً تبعا لما تتطلبه مصالح واشنطن وأهدافها الاستراتيجية، موظِّفة ما تحوزه من سيطرة وهيمنة عسكرية واقتصادية لفرض إرادتها السياسية على شركائها الأوروبيين.
جميع المعطيات والمواقف من قبل الجانبين توحي بأن التصعيد عنوان المرحلة المنظورة بينهما. التعويل على براغماتية كل منهما وعلى إرثهم التاريخي في إدارة الأزمات القصوى يبقى عنواناً متقدماً وموازياً لمسار التصعيد، ما يعني أن إمكانية ضبط إيقاع العلاقات غير مستبعدة حتى وإن تدحرجت الأمور في بعض المحطات نحو حافة الهاوية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة