حين طالبت روسيا قبل أكثر من عام بضمانات أمنية تؤمن بها حدودها الشرقية من حصار الناتو حال انضمام أوكرانيا له، كانت تدرك جيدا أبعاد الخطوة.
فحينها، لم يكن من الصعب على موسكو معرفة ما يعنيه أن يقترب الحلف الغربي من حدودها بطريقة تجعلها بمرماه، فالخطوة تعني مباشرة وقوعها بقبضة أعدائها.
ومع إدراكها بأن لا شيء بقادر على ردع الغرب، وفي ظل رفض الأخير تقديم أي ضمانات لموسكو، كان لا بد من عملية عسكرية في شرق أوكرانيا، وهو ما حدث لتتحول كييف الرابضة على أبواب أوروبا إلى بؤرة صراع.
والآن، ومع انضمام فنلندا رسميا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تتفجر الاستفهامات، مستحضرة وضعية مقارنة تنذر بسيناريو قاتم في بحر البلطيق.
فانضمام فنلندا إلى الحلف يعني اقتراب قواته لأكثر من مسافة 1300 كيلومتر من الحدود مع روسيا، ما يثير المخاوف من تحويل بحر البلطيق إلى منطقة صراع جديدة، لأن موسكو لن تسمح أبدا للحلف بالاقتراب من حدودها.
"بحر الناتو"
بمنح فنلندا الضوء الأخضر للانضمام إلى الناتو، ستجد روسيا نفسها بالمربع الأول لصراعها مع الغرب، إذ ستنتشر قوات الحلف على حدودها، وفي حال انضمام السويد بعدها، ستصبح الحدود الروسية -وتحديدا بحر البلطيق- محاصرة تماما، وهو السيناريو الأسوأ بالنسبة لموسكو.
وقبل أشهر، استبقت مواقع روسية التداعيات، حيث حذر تقرير نشره موقع "نيوز ري" من أن انضمام فنلندا إلى حلف الناتو سيحدث تغييرات كبيرة، أبرزها تحول بحر البلطيق إلى "منطقة نفوذ للناتو".
وحينها، نقل الموقع عن رئيس الأكاديمية الروسية للقضايا الجيوسياسية، العقيد المتقاعد ليونيد إيفاشوف، قوله إن فنلندا ستصبح بعد هذا التطور "دولة غير مستقلة تحتضن قوات الحلف الأطلسي".
وحذر إيفاشوف من أن انضمام فنلندا إلى الناتو سيرفع عدد القوات المسلحة على الحدود مع روسيا إلى 300 ألف جندي بدلا من 50 ألفا سابقا.
واعتبر أن وضعا مماثلا سيدفع موسكو إلى تعزيز وجودها العسكري على حدودها عن طريق نشر عدة فرق وأنظمة دفاع جوي وبعض أنواع الأسلحة الصاروخية.
وبحسب إيفاشوف، فإن عسكرة الحدود صارت أولوية بالنسبة لروسيا بسبب سياسة الناتو، في الوقت الذي كانت تركز فيه موسكو سابقا على تقوية العمل الدبلوماسي والثقافي مع جارتها.
الكرملين يتوعد
"إجراءات مضادة" توعد الكرملين باتخاذها بعد انضمام فنلندا إلى الناتو، واصفا توسيع الحلف بأنه "مساس بأمن" روسيا.
وفي تصريحات إعلامية أدلى بها الثلاثاء، قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، إن "هذا تصعيد جديد للوضع.. توسيع حلف شمال الأطلسي يشكل مساسا بأمننا وبمصالحنا الوطنية".
وأضاف: "هذا يضطرنا إلى اتخاذ إجراءات مضادة. سنتابع من كثب ما يحصل في فنلندا (..) كيف يشكل هذا الأمر تهديدا لنا، سيتم اتخاذ إجراءات على صلة بذلك. سيعرض جيشنا (تطورات) الوضع في الوقت المناسب".
وتابع بيسكوف أنه "لم تصبح فنلندا يوما مناهضة لروسيا وليس هناك أي خلاف" معها، موضحا أن انضمامها إلى الحلف "لا يمكن سوى أن يؤثر في طبيعة علاقاتنا"، لأن الحلف "هو منظمة غير صديقة، بل معادية لروسيا على أكثر من صعيد".
وبعد اعتمادها سياسة عدم الانحياز العسكري مدة ثلاثة عقود، انضمت فنلندا، الثلاثاء، إلى حلف شمال الاطلسي في تحول استراتيجي كان سببه الأزمة الأوكرانية.
ويتيح انضمام فنلندا مضاعفة الحلف طول حدوده التي يتشاركها أعضاء فيه مع روسيا، الأمر الذي يثير استياء موسكو.
وترى روسيا أن الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة هو أحد أبرز التهديدات لأمنها.
وكانت رغبة كييف في الانضمام إلى الحلف أحد الأسباب التي استندت إليها موسكو لتبرير هجومها العسكري على أوكرانيا.
من جهتها، أكدت وزارة الخارجية الروسية أن "الإجراءات المضادة" التي ستقوم بها موسكو "ستعتمد بشكل خاص على نشر أسلحة الناتو من عدمه ونوعيتها على الأراضي الفنلندية".
وأضافت الوزارة في بيان أن "الإجراءات الملموسة المتعلقة بالدفاع عن الحدود الشمالية الغربية لروسيا تعتمد على الشروط الملموسة لانضمام (فنلندا) إلى حلف الأطلسي، خصوصا نشر البنى التحتية العسكرية للناتو على أراضيها ومنظومات الأسلحة القادرة على شن غارات".
أمريكا تحشد
بالجهة المقابلة، تحتفي واشنطن بانضمام فنلندا، حيث دعا وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، الثلاثاء، تركيا والمجر إلى الموافقة "من دون تأخير" على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي.
وقال بلينكن، في بيان، إثر احتفال رُفع خلاله علم فنلندا أمام مقر الحلف في بروكسل: "نشجّع تركيا والمجر على المصادقة على بروتوكولات انضمام السويد من دون تأخير، بحيث نتمكن من استقبال السويد في الحلف في أسرع وقت".
وتعطّل تركيا انضمام السويد، وتتّهمها بالتساهل مع "إرهابيين" أكراد لجؤوا إلى أراضيها، مطالبة إياها بتسليمهم.
من جهتها، تأخذ المجر على السويد انتقادها لحكومة فيكتور أوربان، واتّهامها إياها بعدم احترام دولة القانون.
من جانبه، أبدى الرئيس الأمريكي جو بايدن "فخره" باستقبال فنلندا داخل حلف شمال الأطلسي، بعدما أصبحت رسمياً العضو الحادي والثلاثين فيه.
وقال بايدن في بيان: "حين شنّ (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين حربه العدوانية الوحشية على الشعب الأوكراني، اعتقد أنّه سيتمكّن من إحداث انقسام في أوروبا وحلف شمال الأطلسي. كان مخطئاً. اليوم، نحن موحّدون أكثر من أيّ وقت مضى".
وأضاف "يسعدني أن أرحّب بفنلندا باعتبارها الحليف الحادي والثلاثين لحلف شمال الأطلسي"، متعهّداً بمواصلة "الدفاع معا عن كلّ شبر من أراضي" الحلف.
لكن في ضوء الغضب الروسي الذي من الممكن أن يتجسد بأي لحظة في شكل لا يمكن توقعه، هل يحافظ بايدن على عهوده أم أنه سيضطر إلى تعديلها وفق خارطة التوازنات وحسابات التموقع؟