أخذ الرئيس الروسي خطوة في محاولة إقصاء الدولار عن النظام المالي الروسي، رغم أنها خطوة رمزية.
جاء ذلك في أعقاب دعوته إلى فك ارتباط بلاده بالدولار في المواجهة مع الولايات المتحدة، وسوف يقلص صندوق ثروة روسيا، الذي يتم إرسال فوائض صادرات الطاقة إليه، موجوداته من الدولار إلى الصفر، وسوف ينمي موجوداته من اليورو واليوان والذهب بدلا منه.
وقال نائب وزير المالية الروسي يوم 3 يونيو الماضي في المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبورج: "لقد تحولت كل شركات الطاقة التي تمتلكها الدولة إلى المدفوعات بالعملات المحلية مع شركائها الدوليين، والخطوة التالية هي تغيير ذلك إلى اليورو، واليوان وهكذا، وتناقش الحكومة بالفعل هذا الأمر".
والمنعطف البارز مؤخرا هو انخفاض نصيب الدولار لأقل من 50% في الصادرات الروسية لأول مرة على الإطلاق، وهو ما تم المساعدة عليه عن طريق تحول شركة "روسنفت"، أكبر شركة روسية تنتج وتصدر النفط، إلى اليورو في إتمام تعاقدات التصدير، فضلا عن أن التجارة الروسية مع الصين يتم الآن تسعيرها بشكل أساسي باليورو.
ومنذ نحو أسبوعين، صرح الرئيس الروسي قبل لقائه بنظيره الأمريكي بأن "استخدام الولايات المتحدة عملتها كسلاح اقتصادي وسياسي، أمر يؤذي الدولار كعملة احتياطي دولي".
وقال وزير المالية الروسي إن بلاده سوف تعتمد على المحفزات الاقتصادية للتحول بعيدا عن الدولار كوسيلة لخفض تعرضها لمخاطر العقوبات الأمريكية، ولكنها لا تفكر في فرض أي قيود على الشركات في استخدام العملة الأمريكية.
رغم كل هذه المحاولات من قبل روسيا وغيرها لنزع هيمنة الدولار على ساحة الاقتصاد العالمي، فإن الدولار باقٍ كعملة مهمة.
الواقع أن احتلال الدولار لمكانة مهيمنة في الاقتصاد العالمي يعود إلى تاريخ طويل.
فحينما انتهت الحرب العالمية الثانية، كانت معظم بلدان العالم، وعلى رأسها بلدان أوروبا المتقدمة صناعيا، قد دُمرت تماما، ولم يستثن من هذا المصير سوى بلد واحد، هو الولايات المتحدة الأمريكية.
لهذا كان الناتج الأمريكي عند نهاية الحرب يصل إلى ما يقرب من 60% من إجمالي الناتج العالمي، كما أن أمريكا كانت القوة التجارية الرئيسية في العالم، حيث بلغت صادراتها نحو 22% من جملة الصادرات العالمية، ووارداتها 13% من جملة الواردات العالمية عام 1948، مع تحقيقها لفائض في ميزانها التجاري يزيد على 4.5 مليار دولار.
وقد حدث هذا لأن باقي دول العالم، خاصة الأوروبية، لم يكن لها من سبيل لتعمير اقتصادها سوى عبر ما عرف بـ"مشروع مارشال"، وكان هذا المشروع يعتمد على تصدير السلع الأمريكية للخارج، ما أدى لتحقيق فائض تجاري لصالح الولايات المتحدة حتى عام 1968.
وكما ذكر روبرت ماندل، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لإسهاماته في موضوع النقد الدولي، فإن "أمريكا خرجت من كلا الحربين العالميتين باعتبارها القوة المهيمنة عسكرياً وصناعياً ومالياً، وأصبح الدولار هو العملة العالمية، وهو ما يعد حقيقة تاريخية تقليدية، وهي أن القوة الكبرى هي التي توفر العملة الأقوى، فالنقود ظاهرة سياسية تعكس -وتشكل إلى حد ما- الوضع السياسي في العالم، وتبعاً لذلك فإن القوة السياسية الرئيسية كان لها عادة دور قيادي في تشكيل أو رفض طبيعة النظام النقدي الدولي".
وكان من الطبيعي أن يصبح الدولار الأمريكي وسيلة الدفع المعتمدة في حلبة التجارة الدولية، وعلاوة على دوره كوسيلة دفع، فإن التزام الولايات المتحدة الأمريكية بقابلية تحويل الدولار إلى وزن محدد من الذهب "العملة الوحيدة بعد الحرب العالمية الثانية التي كان لديها هذه القابلية"، كانت تدعم باستمرار من وجه الثقة فيه، وجعلته دون منازع عملة الاحتياطي الدولي، فحينما استرجعت الدول الأوروبية جزءا كبيرا من قدراتها الاقتصادية وخرجت اليابان بعد الحرب كقوة اقتصادية جديدة، وبداية تحقيق هذه البلدان لفوائض في موازين مدفوعاتها، لم يكن هناك خوف من الاحتفاظ بالاحتياطيات الدولية في صورة دولارات، ما دامت كافة الدول التي تحقق فائضا يمكنها بسهولة وفي أي لحظة شاءت أن تحول هذه الدولارات إلى ذهب.
وكما يقول "ماندل": "أصبح الدولار عملة المدفوعات الأساسية، والموجودات الاحتياطية، ووحدة المحاسبة، ووحدة العطاءات والتعاقدات، ومرجع القيمة، ووحدة المدفوعات المؤجلة، وأداة تسوية المنازعات، ومقياس الأسعار العالمية، ومؤشرا للتعاملات الدولية ليحل محل الجنيه الإسترليني -تدريجياً وليس فوراً- بعد عام 1949".
لكن أمريكا في ظل هذه المكانة العالمية المنفردة للدولار أضحت تطبع المزيد من الدولارات، فالسياسة النقدية والمالية الأمريكية لم تكن تخشى ارتفاع معدل التضخم الناتج عن الإفراط في السيولة النقدية المتاحة في الأسواق ما دامت دول العالم أجمع تقبل طوعا، بل وترحب باستيعاب أي كمية من الدولارات تقوم بطرحها السلطات النقدية الأمريكية.
ولكن بمرور الوقت بدا من الواضح للإدارة الأمريكية أن حجم ما هو متاح في الأسواق من أوراق العملة الخضراء يزيد على المتاح من احتياطيات الذهب.
لذا قرر الرئيس الأمريكي نيكسون فجأة في عام 1971 فصل العلاقة بين الدولار والذهب، ليتحول كل ما لدى العالم من دولارات إلى أوراق تتيح لصاحبها حقوقا على الإنتاج الأمريكي، "أي يمكنه شراء السلع والخدمات الأمريكية بها"، أو أداة للاستثمار في السوق الأمريكية، ولكن ليس أكثر من ذلك.
ونتيجة لهذا دخل النظام النقدي الدولي المستند للدولار في أزمة شديدة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وتحول العالم من نظام أسعار الصرف شبه الثابت، الذي تقرر في اتفاقيات بريتون وودز في عام 1944 "الاتفاقيات التي تم بناء عليها تأسيس النظام النقدي الدولي وصندوق النقد والبنك الدوليين"، إلى نظام أسعار الصرف المُعوَّمة.
دول العالم أجمع استمرت في قبول الدولار كعملة عالمية، خاصة كوسيلة دفع وتسعير للعديد من السلع، "وبخاصة السلع الأولية وعلى رأسها النفط"، وبالتالي كان ذلك سببا في استمرار الإقبال على الدولار، سيما بعد ارتفاع أسعار النفط في عام 1973.
واستمرت دول العالم في مراكمة الاحتياطيات الدولارية وواصلت الولايات المتحدة في عدم معاناتها من أي قلق من جراء العجز في ميزان تجارتها ومدفوعاتها، ما دام -على خلاف كافة دول العالم- كان بإمكانها أن تدفع بعملتها الخاصة، التي تقبل بها بقية دول العالم.
وقد عزز من هذا الوضع بزوغ قوة اقتصادية جديدة جبارة منذ السبعينيات، هي اليابان، والتي حققت فوائض مستمرة في ميزان مدفوعاتها وتقبل بالدولار كعملة للاحتياطي النقدي لديها، بحيث كانت اليابان هي أكبر بلد حائز للدولارات خارج الولايات المتحدة حتى وقت قريب قبل أن تسبقها الصين.
وسلكت بُلدان آسيا الناهضة اقتصاديا في بداية الثمانينيات هي الأخرى السلوك نفسه، ثم مع منتصف الثمانينيات وبروز الصين كقوة تجارية دولية برزت هي الأخرى كبلد يحقق فوائض هائلة في ميزان مدفوعاته، يحتفظ بغالبيتها في شكل دولارات.
وكما ذكر "ماندل" فإن "أنظمة النقد لا تتغير فجأة ودون سابق إنذار، فهناك عادة وقت كبير بين التفكير والتنفيذ، كما أن بروز الدولار كعملة التجارة الدولية كان قد تنبأ به جون ستيوارت ميل في عام 1869 مع توقعه هيمنة الولايات المتحدة، وذلك قبل طرد الجنيه الإسترليني، كعملة العالم الرئيسية وتقدم العملة الأمريكية"، أي إنه كانت هناك فترة تصل إلى نحو 80 سنة ما بين هذا التنبؤ وبين تحققه بالفعل على أرض الواقع.
ورغم سهولة التنبؤ بتقلص دور الدولار عالميا، وفقا للحالة الراهنة للاقتصاد الأمريكي والعالمي، وتبين أن القبضة الراسخة للدولار على النظم التجارية والمالية منذ الحرب العالمية الثانية لم تعد أمرا مؤكدا كما كان في السابق، فإن الانتهاء الفوري لدور الدولار ليس منتظرا أو مرحبا به حتى من قبل القوى التي لا يمكن تصنيفها صديقة للولايات المتحدة.
بل وفي روسيا ذاتها، اعترف المسؤول عن إدارة مراقبة القيود الخارجية بوزارة المالية الروسية، بأن "هذه العملية تعد صعبة للغاية لأن استخدام الدولار يعد اقتصاديا أكثر جاذبية"، مضيفا أن تجارة العملة في سوق الصرف الروسية لا تزال 80% منها يتم بالدولار.
الاحتمال الفعلي لوجود نظام تجاري عالمي متعدد العملات لا يزال نظاما بعيدا، وأي اضمحلال في دور الدولار ما زال بعيدا عن كونه أمرا لا مناص منه، ومع التحقق الفعلي لعالم متعدد الأقطاب اقتصاديا وسياسيا سيعاد النظر تلقائيا في وضع نظام نقدي دولي جديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة