جورباتشوف وريجان وبوش الأب.. عداء وصداقة
لم تربط أي رئيس أمريكي علاقة أوثق مع زعيم سوفياتي أكثر من علاقة الرئيسين الراحلين رونالد ريجان وجورج بوش الأب مع ميخائيل جورباتشوف.
فخلال أول أربعة أعوام له بالمنصب، واجه الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان (1981-1989) وقتا عصيبا في إقامة أي نوع من العلاقات مع نظرائه بالاتحاد السوفياتي، معللا ذلك لاحقا بـ"واصلوا الموت أمامي".
ووقع على عاتق نائبه، جورج بوش الأب، حضور الجنازات، حتى أصبح شعاره الساخر: "أنت تموت، أنا أسافر".
ولذلك، عندما تُوفي الرئيس السوفياتي، قسطنطين تشيرنينكو، ضمن سلسلة من القادة السوفياتيين كبار السن عام 1985، أرسل ريجان مجددا بوش لتمثيله في القداس، وللتعامل مع خليفته الجديد، ميخائيل جورباتشوف، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
وحينها، أعلنت مارجريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية المحافظة، أن جورباتشوف كان "رجلا يمكننا التعامل معه"، لكن لم يكن ريجان وبوش متأكدين للغاية من الأمر.
وبعد لقاء جورباتشوف بالجنازة في موسكو، أرسل بوش الأب برقية إلى ريجان تحوي انطباعاته. ومن وجهة نظره، كان جورباتشوف مجرد نسخة حاذقة لنفس الجهاز الشيوعي القديم، وشخصا يجب الحذر منه.
وكان جورباتشوف ساحرا وقدم نفسه على أنه مجدد من الجيل الجديد، لكن لم يكن ريجان أو بوش مقتنعين بأنه حقيقي.
لكن في هذا الشأن، ثبت أنهما على خطأ، وبدأ ريجان أولا ثم بوش النظر إلى جورباتشوف، الذي تُوفي الثلاثاء عن عمر 91 عاما، باعتباره عاملا حقيقيا للتغيير ومحاورا جديرا بالثقة يمكنه على الأقل المساعدة في إنهاء الحرب الباردة التي دامت أربعة عقود.
ولم تربط أي رئيس أمريكي حتى ذاك الوقت علاقة أوثق وأكثر تعاونا مع زعيم في موسكو أكثر من علاقة ريجان وبوش مع جورباتشوف، ولا حتى تحالف فرانكلين روزفيلت مع جوزيف ستالين خلال الحرب العالمية الثانية.
شكوك وتعاون
وترى الصحيفة أنه عندما وضع الرئيس فلاديمير بوتين روسيا في مواجهة مع الولايات المتحدة ويخوض الجانبان حربا بالوكالة في أوكرانيا، من الرائع تذكر التضامن الذي نشأ بين ريجان وبوش من جهة وجورباتشوف من جهة أخرى.
وطبقًا لـ"نيويورك تايمز"، إنها شهادة على حجم ما فقد خلال العقدين منذ تولي بوتين السلطة وتفكيك إرث جورباتشوف.
وسجل ريجان شكوكه في مذكراته، بعدما أطلعه سفير في موسكو، آرثر هارتمان، على الزعيم الجديد، حيث قال: "يؤكد ما أعتقده بأن جورباتشوف سيكون صارما مثل أي من قادتهم. إن لم يكن صاحب أيديولوجية مؤكد لم يكن ليختاره المكتب السياسي".
ومع ذلك، شعر ريجان، الذي كان مناهضا للشيوعية، بقلق بالغ من احتمال نشوب حرب نووية منذ توليه المنصب، واعتقد أن بإمكانه تغيير العلاقات السوفياتية الأمريكية إذا تمكن فقط من مقابلة الطرف الآخر.
وعندما جلس أخيرا مع جورباتشوف في جنيف نهاية عام 1985، أجرى الرجلان نقاشات قوية حول قضاياهما المختلفة، وشعرا بالارتياح مع بعضهما بعضا.
وبمرور الوقت ولقائهما مجددا في أيسلندا، اقتربا حتى من التوسط في اتفاق للقضاء على الأسلحة النووية تماما خلال محادثات استمرت أكثر من عشر ساعات، لكنهما وصلا إلى طريق مسدود بسبب إصرار ريجان على بناء نظام دفاع مضاد للصواريخ يسمى "مبادرة الدفاع الاستراتيجي"، والملقبة بـ"حرب النجوم".
وبمرور الوقت والمشاركة في قمتين تاريخيتين في واشنطن وموسكو، أقام الرجلان صداقة حقيقية وتفاوضا على معاهدة تاريخية للحد من الأسلحة والتي للمرة الأولى لا تبطئ سباق التسلح فحسب، بل قضت على فئة كاملة من الأسلحة وهيأت الظروف لإنهاء الحرب الباردة في نهاية المطاف.
وقال كينيث أدلمان، مسؤول الحد من الأسلحة في عهد ريجان: "في البداية، وجد كل منهما الآخر يفاقم (الأمور) – جن جنون جورباتشوف مدفوعا بقصص ريجان، وأيضا شعر ريجان بالاستفزاز جراء عدم قدرة جورباتشوف على فهم معجزات مبادرة الدفاع الاستراتيجي. لكن في النهاية فهم كل منهما أن الآخر صادق في سعيه لإنهاء التهديد النووي المرعب".
ولدى وجوده في موسكو خلال العام الأخير له في المنصب، وجه جورباتشوف سؤالا إلى ريجان حول ما إذا كان لا يزال يعتبر الاتحاد السوفياتي "إمبراطورية الشر" كما أسماها، لكنه أجاب: "لا. كان ذلك في وقت آخر، حقبة أخرى".
وأشاد ريجان بقدرة جورباتشوف على التغيير، قائلًا للصحفيين خلال مؤتمر صحفي في موسكو: "السيد جورباتشوف يستحق معظم التقدير، كقائد لهذا البلد".
وخلال رحلة أخرى إلى موسكو بعد عام من مغادرته الرئاسة، قال ريجان للمراسلين إن "الرئيس جورباتشوف وأنا اكتشفنا نوعا من الروابط، صداقة بيننا".
صديق
وخلال ترشحه للرئاسة عام 1988، اعتقد بوش الأب في البداية أن ريجان تمادى ومنح ثقة كبيرة. وبعد توليه الرئاسة، علق بوش العلاقة لعدة أشهر حتى إجراء مراجعة للسياسة، لكنه أصبح في النهاية أيضًا صديقا للزعيم السوفياتي، ووجد سبلا للتعاون كان لها آثار عميقة على تاريخ العالم.
وقال جيفري إنجل، مؤلف كتاب "عندما بدا العالم جديدا"، وهو تاريخ سياسة بوش الأب الخارجية، إن الرابط بين الرئيس الـ41 للولايات المتحدة الأمريكية وآخر زعيم سوفياتي "تغيرت بمرور الوقت من شك عميق يقترب من انعدام الثقة" إلى "علاقة عمل جيدة".
وأضاف إنجل، وهو مركز التاريخ الرئاسي في جامعة ساوثرن ميثوديست: "كان جورباتشوف بحاجة إلى اعتراف بوش ودعمه، والأهم من ذلك، الأموال".
وتمكن بوش من اجتياز انهيار الإمبراطورية السوفياتية ونهاية الحرب الباردة كشريك مع جورباتشوف بدلًا من خصوم.