عادت روسيا بقوة إلى العالم العربى والشرق الأوسط منذ تدخلها العسكرى فى سوريا فى نهاية سبتمبر من العام الماضى
عادت روسيا بقوة إلى العالم العربى والشرق الأوسط منذ تدخلها العسكرى فى سوريا فى نهاية سبتمبر من العام الماضى. وقد شكل إتفاق وقف إطلاق النار فى سوريا، الذى أبرمته روسيا والولايات المتحدة فى 9 سبتمبر، وبرغم إنهياره سريعا، دليلا جديدا على تنامى النفوذ الروسى فى المنطقة وإعتراف واشنطن بالدور المحورى لموسكو. فعند بدء التدخل العسكرى الروسى فى النزاع السورى، دعا الرئيس فلاديمير بوتين الولايات المتحدة لمشاركة روسيا فى الحملة ضد التنظيمات الإرهابية، خاصة "داعش"، وهو ما رفضته واشنطن بشدة.
وكان هذا الرفض متوقعا نظرا للتنافس الأمريكى الروسى والتباعد الكبير بل والتناقض بين أهداف الدولتين فى سوريا، ربما بإستثناء محاربة داعش. فبينما تسعى الولايات المتحدة لإسقاط الرئيس بشار الأسد، تؤيد روسيا النظام السورى.
وبرغم أن هدفها المعلن من التدخل فى سوريا هو القضاء على التنظيمات الإرهابية، فإن موسكو دعمت فعليا الحكومة السورية من خلال عملياتها العسكرية ضد الأطراف الأخرى فى المعارضة والمدعومة من واشنطن. ومن السهل تفسير الدعم الروسى لدمشق والرغبة العكسية لواشنطن فى إسقاط الأسد. فسوريا هى أحد أخر حلفاء موسكو الباقين فى العالم العربى منذ عهد الإتحاد السوفييتى، بعد سقوط صدام حسين فى العراق بفعل الغزو الأمريكى فى 2003 ومعمر القذافى فى ليبيا بسبب التدخل العسكرى الغربى فى 2011.
وتحتفظ روسيا فى ميناء طرطوس السورى على البحر المتوسط بأخر قاعدة بحرية لها فى الشرق الأوسط. وهكذا لم تكن روسيا على إستعداد هذه المرة لفقدان الحليف السورى فى العالم العربى، وإن تطلب الأمر تدخلها عسكريا فى النزاع الدائر، وهى أول مرة ترسل فيها موسكو قوات عسكرية خارج أراضي الإتحاد السوفييتى سابقا منذ غزو أفغانستان عام 1979.وكان ذلك سببا أساسيا للإستياء الأمريكى.
فمنذ إنهيار الإتحاد السوفييتى وتفككه فى ديسمبر 1991، تراجع دور روسيا فى العالم العربى والشرق الأوسط، تاركا المجال مفتوحا أمام الولايات المتحدة التى أصبحت طوال تسعينات القرن الماضى القوى العظمى الوحيدة فى العالم. إلا أنه منذ تولى الرئيس بوتين مقاليد الأمور فى البلاد عام 2000 وإستعادة روسيا قدرا من إستقرارها السياسى وعافيتها الإقتصادية، بدأت تتطلع من جديد لدور عالمى يقترب من ذلك الذى كان للإتحاد السوفييتى طوال سنوات الحرب الباردة.
وقد أتاح لها الإنسحاب النسبى للولايات المتحدة من العالم العربى والشرق الأوسط وعدم رغبتها فى التورط فى النزاعات المسلحة بالمنطقة خلال فترتى رئاسة باراك أوباما من 2009 إلى 2016، بالإضافة لتوتر علاقاتها مع بعض الأطراف العربية، فرصة ذهبية لكى تعود بقوة من جديد لممارسة دور مؤثر فى أحداث المنطقة من خلال ملء الفراغ الذى تركته واشنطن.
ولاشك أن التقارب المصرى الروسى خلال الفترة الماضية هو أحد الأدلة القوية على ذلك. كما مثل إتفاق وقف إطلاق النار فى سوريا، رغم إنهياره، مؤشرا هاما على صعود دور روسيا وتراجع الدور الأمريكى. فقد إضطرت واشنطن فى هذا الإتفاق للموافقة على ما كانت ترفضه باستمرار وهو الإعتراف بدور روسيا فى المنطقة ومعاملتها على قدم المساواة. فقد وافقت للمرة الأولى، برغم إعتراض وزارة الدفاع، على التنسيق عسكريا مع موسكو وتبادل معلومات الإستخبارات معها والتحديد المشترك لمواقع "المعارضة المعتدلة" التى ينبغى تفادى إستهدافها عسكريا والأماكن التى يجب ضربها عسكريا وهى الخاصة بداعش وما يسمى بجبهة فتح الشام التى كانت تعرف سابقا بجبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة. ويعد إعتراف واشنطن رسميا للمرة الأولى بجبهة فتح الشام كمنظمة إرهابية إنتصارا لروسيا. وكانت الولايات المتحدة تتفادى ذلك فى السابق لأهداف سياسية وتكتيكية.
وفى أعقاب التوقيع على إتفاق وقف إطلاق النار، أعلن وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى أن الولايات المتحدة تتطلع لتعاون النظام السورى فى تثبيت الهدنة ولم يأت على ذكر الموقف الرسمى التقليدى بضرورة رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة، وهو ما فسر على أنه مرونة من جانب واشنطن بسبب الدعم الروسى القوى لدمشق وعلى إستعداد الولايات المتحدة القبول بدور لبشار الأسد خلال مرحلة إنتقالية. وهو ما يعد أيضا إنتصارا لموسكو.
والواقع أن التحول النسبى فى موقف واشنطن أو إبدائها قدرا من المرونة بإتجاه الموقف الروسى هو نتاج تطورين أساسيين فى النزاع السورى. الأول هو إستمراره لسنوات طويلة دون أن تبدو بارقة أمل لحل قريب. فقد إستهل الصراع عامه السادس فى مارس الماضى ولا يبدو أن الأطراف المتنازعة على إستعداد لتقديم التنازلات الضرورية للتوصل لحل سياسى. والنتيجة المنطقية لذلك هى زيادة معاناة الشعب السورى الذى فقد حتى الأن وفقا لتقديرات الأمم المتحدة أكثر من أربعمائة ألف قتيل بالإضافة لتفجر أزمة لاجئين غير مسبوقة تفدر الأمم المتحدة عددهم بما يقارب خمسة ملايين نسمة.
أما التطور الخطير الثانى فيتمثل فى ظهور وتنامى خطر التنظيمات الإرهابية، وفى مقدمتها داعش، التى إستفادت من حال الحرب وعدم الإستقرار الأمنى والسياسى لكى تسيطر على أراض واسعة سواء فى سوريا أو العراق وتنشر العنف والإرهاب فى هاتين الدولتين وفى الخارج. ويبدو أن الولايات المتحدة أصبحت تعتقد أن مخاطر إستمرار النزاع المسلح أضحت تتجاوز مساوئ إستمرار بشار الأسد فى السلطة، وبالتالى فإن وضع حد للنزاع أصبح هو الأولوية وليس رحيل الرئيس السورى. ولاشك ان الدعم العسكرى القوى الذى قدمته ومازالت تقدمه روسيا للنظام السورى كان له أبلغ الأثر فى تحول القناعة الأمريكية. فلم يعد مطروحا كما كان من قبل خيار إسقاط الرئيس الأسد الذى تدعم موقفه داخليا بشدة بفضل التدخل العسكرى الروسى.
وما يؤكد إصرار موسكو على دعم حليفها السورى هو إعلانها مؤخرا توجه حاملة الطائرات "الأدميرال كوزنتسوف"، وهى الوحيدة التى تملكها روسيا، لسواحل سوريا لمعاونة السفن الروسية العاملة فى شرق المتوسط فى قصف مواقع المعارضة المناوئة للنظام السورى. وقد قررت روسيا أن ترسل على متن حاملة الطائرات أحدث مقاتلاتها الحربية.
وهناك عامل أخير، مرتبط بحملة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، ساهم كذلك فى تبدل وتليين موقف واشنطن لصالح موسكو وهو صعود أسهم مرشح الحزب الجمهورى دونالد ترامب فى إستطلاعات الرأى على حساب مرشحة الحزب الديمقراطى هيلارى كلينتون. فقد إستغل ترامب تدهور النزاع السورى لكى ينتقد الإدارة الديمقراطية برئاسة باراك أوباما والمرشحة الديمقراطية التى رفضت دوما الإعتراف بدور لروسيا فى حل الأزمة وأصرت على رفض إستمرار بشار الأسد فى السلطة.
وأكد ترامب أنه لو فاز فى الإنتخابات فإنه سيوقع سريعا إتفاقا مع روسيا لتسوية النزاع فى سوريا. ويبدو أن هذا الموقف كان أحد أسباب صعود ترامب فى إستطلاعات الرأى، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية للإسراع بإبرام إتفاق لوقف إطلاق النار مع روسيا، قدمت خلاله مجموعة من التنازلات، لزيادة فرص هيلارى كلينتون فى الفوز بإنتخابات الرئاسة.
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة