بين إطلاق عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا والإعلان الأخير للرئيس الروسي بوتين، بالتعبئة الجزئية، سبعة أشهر من القتال الميداني.
هذا الأمر بالتأكيد يعني أن استراتيجية بوتين مستمرة في أوكرانيا، وأن كل أفكار ومشاريع التفاوض لا تزال متعثرة أمام آلة الصراع والحرب، خاصة في ظل دعم عسكري كبير من الغرب، ممثلا في أمريكا وأوروبا، للجانب الأوكراني.. وربما هذا ما دفع الرئيس الروسي إلى اتخاذ قراره بجمع 300 ألف جندي روسي من قبيل "التعبئة الجزئية"، التي أعلنها الأربعاء الموافق 21 سبتمبر الجاري.
وللتوضيح، فإن هناك نوعين من التعبئة، عامة وجزئية. أما التعبئة العامة فهي تحويل القوات المسلحة إلى "حالة الحرب أو شبه الحرب وتكريس اقتصاد الدولة ومؤسساتها وقدراتها ومواردها المادية والبشرية وقوانينها لتوفير حاجات حرب طويلة الأمد للوصول إلى أهدافها"، ولتحقيق ذلك يستلزم الأمر موافقة من البرلمان في أي دولة تتخذ هذا القرار لإعلان حالة الحرب.
وأما التعبئة الجزئية فتكون أخف في إجراءاتها. حيث إنها تتكيف مع متطلبات الحالة، التي فرضت لأجلها، ويُحدد عدد القوات المطلوبة بها والعتاد والتمويل حسب رؤية متخذي القرار. فيما العملية العسكرية لا تتطلب موافقة البرلمان وتقوم بها فئة معينة من القوات، وعادة ما تهدف إلى تحقيق الاستفادة من عنصر السرعة والمفاجأة لمباغتة الهدف المرجو.
بالرجوع إلى الحالة الروسية، فإن إعلان "بوتين" التعبئة الجزئية بعد إصرار إعلامه على تسميتها "العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا" طوال المدة المنصرمة، يعد تحولا كبيرا في الموقف الروسي، حيث إن الأهداف المعلنة للعملية من بدايتها كانت محددة لتحرير "الدونباس"، شرق أوكرانيا، وحماية الروس الموجودين هناك، ولكن إعلان استدعاء 300 ألف جندي احتياط بمثابة تغيير في الاستراتيجية المتبعة، ويعد أيضا إعلانا باستمرار الحرب لمدة طويلة لا أحد يعلم لها نهاية.
هذا القرار يأخذنا إلى منحنى آخر من تصعيد الصراع في أوكرانيا، أو بالأحرى بين روسيا والغرب، حيث إنه قبل إعلان التعبئة الجزئية بيوم وجه الرئيس الروسي بـ"دراسة المعدات العسكرية الغربية المستخدمة في أوكرانيا وتحسين المعدات المحلية وتعزيز القوات الدفاعية"، وهذا منطقي جدا لرصد مصادر تمويل وإمداد الأسلحة لأوكرانيا واستهدافها لعرقلة أي هجوم مضاد من كييف، وذلك لأن الغرب يقدم دعما استخباراتيا وتكنولوجيا متقدما لأوكرانيا قد يخل بمعادلة بوتين في المعركة ويحقق الاستنزاف الطويل لقواته بحسب ما هو واضح من الخطة الأوروأمريكية.
ومع هذا التحول في الموقف الروسي وتصريح بوتين أنه "للدفاع عن روسيا وشعبها، بلا شك سنستخدم جميع موارد الأسلحة المتاحة لنا"، في إشارة لاستخدام الأسلحة النووية، فقد تتحول العملية العسكرية الروسية لتسمية "حرب" تتعلق بسيادة روسيا نفسها.
وطبقا لمقولة "يمكنك معرفة متى تبدأ الحرب، ولكن لا يمكنك معرفة متى تنتهي"، فإن استمرار هذه الحرب لفترة طويلة هو الأقرب للواقع والشواهد، وهذا ما يرفع سقف أهداف طرفي/أطراف الصراع، إذ تسعى روسيا حاليا لضم مناطق أخرى مثل زابوريجيا، وكذلك تغيرت أهداف الغرب من منع تقدم روسيا في أوكرانيا وإجبارها على الجلوس لمائدة تفاوض، إلى المطالبة بانسحابها من جميع الأراضي المسيطر عليها، بل وانسحابها أيضا من شبه جزيرة القرم.
ومع تعدد جهات الصراع، يصعب الوصول إلى حل وسط يُرضي الجميع، وفي الحالة الأوكرانية هناك كثير من الأطراف، ما يؤدي إلى إطالة شبه مؤكدة في زمن الحرب، ومعها تستمر التداعيات السلبية على العالم، فطبقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، "فاو"، فإن أسعار الأغذية والأعلاف في العالم قد ترتفع بما يتراوح بين 8 و20% نتيجة الصراع في أوكرانيا.
وصرحت المنظمة أيضا أنه بحلول نهاية العام الجاري قد تصل معدلات نقص الغذاء حول العالم إلى 23.5%.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض نمو الاقتصاد العالمي خلال العامين المقبلين بنسبة 3.6%. وهو تباطؤ حاد عن النمو البالغ 6.1% في عام 2021، وذلك بالإضافة إلى أزمة أسعار الطاقة العالمية وأزمة مخزون الطاقة في أوروبا.
الحرب الروسية الأوكرانية مستمرة.. وقد تتمدد لجغرافيا أخرى.. وقد تحدث مفاجآت في الجانبين، لكن الظاهر الجليّ أن أمل التفاوض يبتعد ما دامت أمريكا تجر أوروبا خلفها لدعم كييف، أو استنزاف روسيا، أيهما أقرب إلى منطق الصراع، الذي يدفع ثمنه العالم كله بما فيه القوى الغربية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة