تتكثف ملامح الصراع الروسي الأطلسي يوما بعد آخر بسبب تفاعلات النزاع الروسي الأوكراني، والسجال الميداني في ساحات القتال بين الجانبين.
ملامح التصعيد، التي لم تكن معهودة من قبل، اتخذت سبيلين، أحدهما تواتر الضخ الغربي في ماكينة كييف العسكرية والاقتصادية والسياسية وتعزيزها بشكل مطرد، والسبيل الآخر رسمته التحولات ذات الطابع الاستراتيجي في مواقف موسكو، حيث أزاحت جانبًا مفهوم "الصبر الاستراتيجي"، الذي لازم نهج الكرملين منذ تفجُّر النزاع في شهر فبراير/شباط الماضي من خطابها، وانتقلت إلى المقارعة المباشرة مع دول الناتو على لسان الرئيس فلاديمير بوتين بقوله "إن الغرب تجاوز في سياساته المناهضة لبلادنا كل الحدود الممكنة".
مخاطبةُ الرئيس الروسي الغربَ بشكل مباشر تُميط اللثام عن أمرين لم يعد بإمكان موسكو مداراتهما أو التحفظ عليهما، أولهما أن المواجهة العسكرية مع سلاح دول الناتو أصبحت مباشرة ومعلنة على الأرض الأوكرانية، وهي حقيقة ناصعة كما يقول وزير الدفاع الروسي شويغو، بدءا بصنوف الأسلحة المتنوعة، وصولا إلى الأقمار الصناعية والمستشارين العسكريين.
الأمر الثاني، الذي تضمنته مخاطبة بوتين المباشرة للغرب، يعكس رفع منسوب التحدي الروسي للآلة العسكرية الأطلسية، التقليدية منها وغير التقليدية من جانب، والإشارة من جانب آخر إلى وجود استراتيجية جديدة للتعامل مع التكتيكات والمناورات الأطلسية العسكرية، التي تنفذها ضد روسيا عبر الأراضي الأوكرانية.
لم يعد الاختباء خلف الإصبع مُجديًا للتمويه، سواء من جانب دول الغرب الأطلسي المنخرطة في النزاع الروسي الأوكراني عسكريا وسياسيا واقتصاديا، أو من جانب موسكو، التي ظلت حريصة على عدم حرق المراكب مع الأوروبيين، واختارت ترك الباب مواربًا في خطابها الدبلوماسي الموجّه لخصومها الغربيين، وتجنبت التصعيد على مدى الشهور الستة الأولى من عمر النزاع مع كييف.
دقت ساعة الحقيقة في روسيا، وكأنها الأجراس التي لا مفر من قرعها بإعلان "التعبئة الجزئية" لما يقرب من ثلاثمائة ألف جندي وفقًا لما أفصح عنه الرئيس فلاديمير بوتين، فتردد صداها في أربع جهات الأرض.
الوقت كما السجال العسكري الناشئ بين الطرفين، لا يعمل لصالح أحد. واشنطن ومعها حلفاؤها الأطلسيون يبتغونها استنزافًا طويل الأمد لروسيا ومقدراتها الذاتية، وتحجيما لها ولدورها على المسرحين الأوروبي والعالمي.
موسكو تدرك ذلك وعاينته منذ تفجر الأزمة سياسيا مع كييف، أي قبل اندلاع شرارة الحرب، وقبلها في سياق الصراع بين القطبين في أكثر من قضية ومكان، ولا يبدو أنها في وارد السماح لخصومها بأن يحققوا مبتغاهم على حساب مكانتها كقوة عظمى. لديها من وسائل الردع ما يجعل خصومها يراجعون حساباتهم أكثر من مرة.. إنها رسالة الرئيس بوتين الأعمق تعبيرًا عن الامتعاض والغضب، والأكثر دلالة على التمسك بخِيارات الدفاع بمستوياته التكتيكية والاستراتيجية بقوله: "أود تذكيرهم بأن بلادنا كذلك تملك أسلحة دمار شامل، وفي بعض أجزائها أكثر تطورًا من نظيراتها لدى دول الناتو".. أيُّ معادلة تتبلور في ثنايا مستجدات الصراع بين العدوَّين التاريخيين، روسيا والناتو؟
هل سيتمخض التصعيد بينهما عبر البوابة الأوكرانية عن "توازن رعب" يجثم على صدر العالم مجددا لفترة زمنية مجهولة المدى؟.. هل سيحمل التصعيد المتبادل بين الطرفين نذر حرب أوسع؟ أم هل سيدفع التحشيد المتناظر بينهما إلى تبلور صيغ تفاهمات عبر طرف ثالث يمكن الارتكاز عليه لنزع فتيل برميل البارود الذي يقلق العالم؟
من الواضح حتى الآن أن أطراف النزاع جميعها خاسرة بدرجات وصيغ متفاوتة، لكن أقساها ما يتعرض له الإنسان ويكابده من تبعات تتعلق بحياته راهنا ومستقبلا.. الحاجة باتت ماسّة إلى أن يشكل التصعيد الراهن المتبادل بين الجانبين حافزًا لبعض الأطراف الدولية المؤثرة وللهيئات الأممية للتحرك ومنع الانزلاق نحو متاهات مواجهات عسكرية أوسع نطاقا وأخطر مآلا، بعد أن بلغ الاحتقان بين الناتو وروسيا حدودًا غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن دخلت الطاقة والغذاء والعقوبات الشاملة المتبادلة ضمن وسائل الصراع المباشر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة