خرج بوتن منتصرا بكل المقاييس من خلال تكتيك ذكي، فهو يعلم أن القوات الداعمة له على الأرض في معركة إدلب المفترضة غير كافية لشن المعركة.
من الغريب أن يحظى اتفاق سوتشي بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتن حول إدلب بالترحيب من جميع الفرقاء في الشأن السوري، من طهران إلى دمشق، وصولا إلى واشنطن والاتحاد الأوروبي. فلو افترضنا أن الترحيب الغربي بهذا الاتفاق جاء لأسباب "إنسانية" كما هو معلن -بينما هناك أسباب أخرى سنتطرق اليها لاحقا في هذا المقال- فإننا نحتار أمام سبب ترحيب طهران ودمشق به، وهما اللتان تصران على عودة إدلب "إلى حضن الوطن" وسيطرة النظام السوري، ومن خلال تحليل وكشف أسباب هذا الترحيب الواسع الحقيقية -كل طرف على حده- سنصل إلى نتيجة مغايرة لما يتم ترويجه من حديث عن انتصار أو نجاح ثنائي روسي تركي "لحل أزمة إدلب".
ناور بوتين الذي أبدى ظاهريا عزمه على شن العملية في إدلب مهما بلغت صعوبتها، واستفاد من وضع الرئيس أردوغان نفسه في الزاوية أمام المجتمع الدولي والرأي العام الداخلي في تركيا في ملف إدلب، لينتزع منه تنازلا مهما، يتلخص في أن تتولى تركيا المهمة الأصعب في إدلب ضد المتطرفين
الغرب يعلن أن ترحيبه بالاتفاق جاء لأسباب إنسانية بحتة، إذ أن الاتفاق يؤجل أي عمل عسكري في إدلب كان سيودي بحياة المدنيين ويتسبب في هجرة مئات الآلاف منهم حسب التصريحات الرسمية، وهنا يجب أن نتوقف قليلا ونعود إلى الوراء ونستذكر التصريحات القديمة بهذا الشأن، من المهم طبعا حماية المدنيين من عملية عسكرية واسعة، لكن نعود لنسأل: ألم تكن تصريحات المسؤولين الأتراك في أنقرة المبررة لعميات الجيش التركي في جرابلس والباب وإعزاز وعفرين، تعتمد في جزء كبير منها على ضرورة إنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا من أجل احتواء أي موجة هجرة أو نزح جماعي داخل حدود سوريا؟
المنطقة الآمنة التي أنشأها الجيش التركي مع قوات الجيش السوري الحر في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون التي توازي تقريبا مساحة لبنان تكفي لاستيعاب جميع النازحين وتأمينهم داخل الأراضي السورية، في حال أي عمل عسكري في إدلب، فلماذا عاد الحديث عن موجة هجرة ونزوح تهدد تركيا والاتحاد الأوروبي طالما أنه تم إنشاء تلك المنطقة العازلة أو الآمنة؟ هنا يجب أن ننظر إلى الصورة الأكبر لندرك أن التهديدات الغربية بقصف الجيش السوري في حال شنه عملية عسكرية في إدلب -بحجة احتمال استخدام السلاح الكيماوي- لم يكن الهدف السياسي منها حماية المدنيين كما هو معلن، وإنما مساومة روسيا والضغط عليها في ملف الحل النهائي للأزمة السورية برمتها، من أجل دفع روسيا إلى التفاوض على إخراج القوات الإيرانية من سوريا، من خلال عرقلة الاستراتيجية الروسية القائمة على الإسراع في الانتهاء من العمليات العسكرية والقضاء على ما تبقى من الجماعات المسلحة المتطرف منها والمعتدل، فروسيا تسعى لفرض حل سياسي يناسبها في سوريا من خلال إبقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، والانتهاء من الملف العسكري سريعا والتمهيد للانتخابات الرئاسية في 2019.
وقد شهدنا فصلا مماثلا من هذه المساومات الغربية الروسية خلال عمليات التحالف الدولي ضد داعش في سوريا، من خلال الاتهامات المتبادلة بين روسيا والتحالف بالسماح لمسلحي داعش بالخروج الآمن من مناطق العمليات إلى مناطق أخرى تخضع لعمليات الطرف الآخر. حدث ذلك في دير الزور والرقة. فكل طرف كان يحاول التقليل من خسائره وزيادة خسائر الطرف الآخر من خلال دفع مسلحي داعش إلى أراضي الطرف الآخر. ورغم العمليات الكبيرة التي حدثت في الرقة ودير الزور فإننا لم نشهد "انتفاضة دبلوماسية" كالتي نشهدها اليوم بشأن إدلب حول الخسائر بين صفوف المدنيين والنازحين. وعليه فإن الدعم والترحيب الغربي لاتفاق سوتشي قائم على ما حدث من تأجيل لحسم ملف المسلحين -المعتدلين بالأخص- الذي يصب في تأخير الخطط الروسية وزيادة الضغط على موسكو، وليس من باب الاقتناع بالحل الذي قدمته تركيا والذي تم الاتفاق عليه تحت ذريعة "حماية المدنيين ومنع موجات النزوح"، أي أن الدعم الغربي لم يكون للطرح التركي وانما تم استخدام أنقرة من أجل الضغط على موسكو.
في المقابل، فإن الاتفاق بشكله المعلن، يحيل مشكلة جبهة النصرة والجماعات المسلحة المتطرفة إلى عهدة تركيا وحدها، فهي المسؤولة من الآن فصاعدا عن تفكيك تلك الجماعات أو القضاء عليها، بما يحمله ذلك من مخاطر أمنية، دون الحصول على أي مقابل أو فائدة سياسية لتركيا، فالطرح التركي الأصلي الذي قدمه الوفد التركي المكون من وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس جهاز المخابرات خلال لقائهم بالرئيس بوتن في موسكو الشهر الماضي -قبل قمة طهران وقمة سوتشي- كان قائما على أن تتحمل تركيا المخاطر الأمنية والعسكرية بالدخول في مواجهة عسكرية مع جبهة النصرة والجماعات المتطرفة والإرهابية في إدلب، مقابل مصلحة سياسية تتمثل بفرض هيمنتها على إدلب وتوسيع سيطرتها الجغرافية إلى حدود حلب، والحصول من خلال هذا الهدف على ورقة تفاوض قوية على مستقبل سوريا، لكن هذا الطرح رُفض من قبل الرئيس الروسي الذي أصر على ضرورة عودة إدلب إلى سيطرة الجيش السوري بعد القضاء على تلك الجماعات، وعليه تراجعت تركيا عن طرحها وقدمت خطة معدلة بإنشاء المنطقة منزوعة السلاح والتكفل بتفكيك النصرة والتصدي لبقية الجماعات خلال جدول زمني محدد لا يتعدى الثلاثة أشهر، وهي مهمة خطرة وصعبة للغاية، وتشمل التراجع عن السيطرة على إدلب جغرافيا وتسليم قسم كبير منها لروسيا أولا ومن ثم إلى الجيش السوري لاحقا.
هنا خرج بوتن منتصرا بكل المقاييس من خلال تكتيك ذكي، فبوتن يعلم أن القوات الداعمة له على الأرض في معركة إدلب المفترضة، وقوامها من الجيش السوري وبعض المليشيات الإيرانية، غير كافية لشن المعركة، فالجيش السوري أعداده في تراجع، كما أن إيران لم تقدم الدعم الكافي على الأرض بسبب انزعاجها من موقف موسكو "غير الواضح" من مطالبات واشنطن بطرد القوات الإيرانية من سوريا، وعليه فإن المعلومات الواردة من أرض المعركة تفيد بأن قوات القوات السورية والإيرانية التي كانت تستعد لمعركة إدلب لا تتجاوز 30 ألف جندي، بينما يوجد في إدلب أكثر من 70 ألف مسلح، ولم يسبق أن دخل الجيش السوري عملية عسكرية بهذا الحجم ولو بدعم من موسكو بهذا الفارق الكبير في عديد القوات على الأرض، مما يعني أن عملية إدلب لم تكن مضمونة بالنسبة للجانب السوري، وكانت ستتسبب في خسائر كبيرة للجيش السوري وربما القوات الروسية، ومن هنا ناور بوتين الذي أبدى ظاهريا عزمه على شن العملية في إدلب مهما بلغت صعوبتها، واستفاد من وضع الرئيس أردوغان نفسه في الزاوية أمام المجتمع الدولي والرأي العام الداخلي في تركيا في ملف إدلب، لينتزع منه تنازلا مهما، يتلخص في أن تتولى تركيا المهمة الأصعب في إدلب ضد المتطرفين، مع تعهد بإعادة جزء كبير من المحافظة إلى الجيش السوري دون أن يطلق هذا الأخير رصاصة واحدة أو يخسر أي جندي على الأرض، من هنا يمكن فهم الترحيب الإيراني والسوري بهذا الاتفاق، وفي هذا الإطار أكد وكيل وزارة الخارجية السوري فيصل مقداد قبل يومين أن إدلب ستعود "إلى حضن الوطن سواء بالعمل العسكري أو سلميا" بعد اطلاعه على تفاصيل الاتفاق التركي الروسي.
الوضع في سوريا يبقى منوطا بالسجال الأمريكي الروسي حول مستقبل سوريا بعد الانتهاء من تصفية المسلحين المعارضين للرئيس الأسد متطرفين ومعتدلين كهدف روسي استراتيجي، ومطالبات واشنطن بخروج القوات الإيرانية من سوريا وتحقيق عملية انتقال سياسي في السلطة، وهذا السجال يظهر في عدة خطوات تكتيكية بين الطرفين، مثل إعلان موسكو -الذي نشك في تنفيذه على الأرض- نشر بطاريات إس300 في سوريا، ردا على تحميل إسرائيل مسؤولية إسقاط الطائرة الروسية الأسبوع الماضي في سوريا، فهذه ورقة تصعيدية تقدمها روسيا على طاولة التفاوض الأكبر مع واشنطن مقابل دعم أمريكا الأكراد والإعلان عن بقاء القوات الأمريكية على الأرض حتى التأكد من الوصول إلى حل نهائي لمستقبل سوريا.
ومثلها ورقة إدلب التي تناور فيها موسكو وواشنطن من أجل الهدف الأكبر، فيما يتم استخدام تركيا لتحقيق هدف الطرفين، مستفيدين من التصريحات النارية التي يطلقها الرئيس أردوغان من الحين والآخر، والتي تورطه في مآزق سياسية جديدة، فالتعهد بتفكيك جبهة النصرة وأخواتها في إدلب لن يكون سهلا، ولن تقبل موسكو بأي حل ترقيعي أو غير منطقي مثل أن يترك المسلحون سلاحهم وينضمون إلى المدنيين في إدلب، وللعلم فإن جبهة النصرة لديها امتداد لوجستي مهم داخل الأراضي التركية في أنطاكية وغازي عنتاب، وخلايا نائمة وجماعات دعم وتأييد لن تقف متفرجة على تصفية فرعها العسكري في إدلب، فإذا جاز القول إن الجميع خرجوا فائزين من اتفاق سوتشي، فإن الخاسر الوحيد هو تركيا التي ضحت بمصالحها السياسية والاستراتيجية والأمنية لمصلحة اللاعبين الكبار على رقعة الشطرنج السورية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة