بقي الروسي هو الأقدر على الضغط على دمشق و"قسد" معا، للتوصل إلى حل مقبول يحقق التطلعات الممكنة للطرفين
بداية لا بد من القول إن أي حوار من شأنه أن يسهم في عودة الاستقرار إلى سوريا، ويخفف عنها آثار الحرب والدمار، ويحقق لها مقدمات إعادة الإعمار والنهوض، يبقى هدفا ساميا؛ لا للسوريين فقط، بل لكل من يريد الاستقرار في المنطقة.
وعليه، فإن الحوار بين دمشق والكرد السوريين يحظى بأهمية خاصة، لأسباب لها علاقة بالتعايش السلمي، والتغيير السياسي، ومواجهة التحديات الإقليمية، لا سيما في ظل الأجندة التركية الهادفة إلى احتلال معظم الشمال السوري بحجج واهية، بالتزامن مع العملية العسكرية السورية الجارية في إدلب، والاشتباك السياسي الجاري على خط أنقرة - موسكو.
بدأت روسيا برعاية لقاءات بين الكرد والحكومة السورية بغية التوصل إلى اتفاق للحل السياسي بينهما، وهي جهود جرت وتجري بعد أن وضع العدوان التركي تحت عنوان "عملية نبع السلام" الكرد والسلطات السورية وجها لوجه.
ومع هذا الواقع الجديد برز الروس كضامن للحوار بين الجانبين، لا سيما أن موسكو نجحت في عقد تفاهم أمني عسكري بينهما، أفضى إلى انتشار القوات السورية النظامية في عدد من المناطق الحدودية مع تركيا.
كما حلت القوات الروسية محل القوات الأمريكية في عدد من القواعد والمناطق التي انسحبت منها الأخيرة، ولعل هذه التطورات دفعت بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى تكثيف اللقاءات مع الجانب الروسي، أملا في دور روسي يفضي إلى التوصل إلى اتفاق سياسي مع السلطات السورية.
أمام هذا الواقع الجديد، ثمة أسئلة كثيرة تطرح، لعل أهمها، هل فعلا يمكن أن تعترف دمشق بالوجود القومي للكرد؟ وهل يمكن أن تقبل بالإدارة الذاتية في شرقي الفرات؟ في المقابل، هل يمكن لـ"قسد" أن تقدم خطابا واضحا لجهة الخيارات السياسية النهائية؟ وإلى أي درجة تستطيع أن توفق بين مطالبها المحلية ومحددات العلاقة مع المركز؟ مع الاعتراف المسبق باختلاف وتناقض الرؤى بين النظام و"قسد"، وكيفية التوصل إلى اتفاق بينهما.
يبقى الروسي هو الأقدر على الضغط على دمشق و"قسد" معا، للتوصل إلى حل مقبول، يحقق التطلعات الممكنة للطرفين، وبما يوطد جبهة الداخل السوري في مواجهة الأطماع التركية، وتحرير باقي الأراضي السورية من الاحتلال التركي
وثمة محددات ربما تساعد في حوار منشود بين الطرفين، ولعل من أهم هذه المحددات:
1- اتفاق الطرفين على أهمية وحدة الصف والجهود في مواجهة المخاطر التركية، إذ أبرزت الغزوات التركية الثلاث (درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام) والخطوات التركية الجارية في المناطق التي احتلتها، نوايا تركية على شكل أطماع بالشمال السوري، واستراتيجية للبقاء طويلا في هذه الأراضي.
2- روسيا التي تقدم نفسها بدور الضامن للحوار بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، ومع أن حدود هذا الدور لم تتضح بشكل كامل، فإنه نجح في دفع الطرفين للتوصل إلى تفاهم عسكري في مناطق بشرقي الفرات، وهو ما رسم خريطة جديدة للنفوذ والأدوار والمسارات، لعل أهمها هو أن انتشار القوات السورية في المناطق الحدودية مع تركيا، ينزع من الأخيرة حجة أن الكرد انفصاليون ويريدون تقسيم سوريا كما يروج نظام أردوغان.
3- طبيعة العلاقة والأدوار بين "قسد" ودمشق تشكل محددا طبيعيا للحوار، إذ لم تشهد العلاقة بينهما طوال السنوات الماضية حروبا أو صراعات دموية، وفي أحيان كثيرة تقاطعت هذه العلاقة، لا سيما لجهة محاربة تنظيمات إرهابية وعلى رأسها داعش والنصرة.
في الواقع، بعيدا عن تناقض المواقف بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية بشأن القضايا السياسية المثارة، ثمة تصور لدى دمشق بأن التطورات الأخيرة أضعفت من موقف "قسد" وخياراتها، لا سيما في ظل الضغط الروسي على "قسد" من بوابة محاربة الوجود العسكري الأمريكي واستمرار التهديد التركي.
وعليه انطلاقا من هذا التصور، تنطلق دمشق في تصورها للحوار مع "قسد" من حقيقة عدم قبول وجودها كمؤسسة عسكرية وإدارة ذاتية في المستقبل، في حين هذا التصور هو ضد المطلبين الأساسيين لـ"قسد"، أي الاعتراف بالإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي سوريا، والاعتراف بخصوصية "قسد" في الجيش السوري في المستقبل.
فنموذج الاتفاق الذي تطرحه "قسد" هو شكل من أشكال الاعتراف السياسي، في حين دمشق تركز على قانون الإدارة المحلية، وشكل من أشكال الحقوق الثقافية واللغوية لا أكثر.
أمام هذا الواقع، تتجه الأنظار إلى الدور الروسي، ومدى جديته في الضغط على الطرفين لتحقيق حل مقبول يحقق للطرفين تطلعاتهما، حل يحافظ على وحدة الأراضي السورية ويحقق للكرد هويتهم القومية في إطار دولة تعددية. في الواقع من يراقب التصريحات الروسية حتى الآن لا بد أن يرى حالة من الغموض، ومحاولة استخدام الكرد ورقة في سياسته العامة في سوريا، تارة لدفع تركيا إلى القبول بالاستراتيجية الروسية في مرحلة ما بعد إدلب، وأخرى في جعل الكرد ينفكون عن تحالفهم مع الجانب الأمريكي في إطار الصراع بينهما على النفوذ على الساحة السورية،
كما أن موسكو كثيرا ما تتهرب من التعامل الجدي مع مطالب الكرد من بوابة معاقبة قوات سوريا الديمقراطية على تحالفها مع واشنطن، ولعل هذا الواقع يضع "قسد" أمام خيارات صعبة، لا سيما في ظل استمرار التهديد التركي ورهان البعض على هذا التهديد لدفع "قسد" إلى التخلي عن مشروعها الطامح إلى التغيير السياسي.
لكن في جميع الأحوال، يبقى الروسي هو الأقدر على الضغط على دمشق و"قسد" معا، للتوصل إلى حل مقبول، يحقق التطلعات الممكنة للطرفين، وبما يوطد جبهة الداخل السوري في مواجهة الأطماع التركية، وتحرير باقي الأراضي السورية من الاحتلال التركي. وعليه، فإن المطلوب هو أكثر من عقد لقاءات هنا وهناك، بل ضرورة وجود إرادة حقيقية لدى الطرفين، ورغبة أكيدة في الوصول إلى حل منشود.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة