صالح العجيري "عابر المجرات".. عالم فلك أفل نجمه وبقي أثره
كما تعيش النجوم فترات طويلة من العمر قبل أفولها، فإن القدر منح عالم الفلك الكويتي الشهير الدكتور صالح العجيري، عمرا مديدا، قبل أن يأفل نجمه الخميس، وتصعد روحه إلى بارئها، معلنة نهاية الجسد الذي عاش 102 عاما، ليبقى الأثر والعلم الغزير الذي ينتفع به.
وُلد الفلكي الشهير في 23 يونيو/حزيران 1920، في حي القبلة بمدينة الكويت، عاصمة دولة الكويت، ومثل كثير من الأطفال كان يخشى الظواهر الطبيعية كالرعد والبرق، وهو ما دفعه لمحاولة التعرف عليها أكثر وأكثر، ليبدأ اهتمامه المبكر بعلم الفلك، والذي حاول تدعيمه بالدراسة والقراءة ومعايشة التجارب المختلفة.
وحكى العجيري في عدة مناسبات تجربته في قبيلة الرشايدة، حيث أرسله والده هناك بعد أن لمس شغفه بالفلك، ليتعلم الفصول والمواسم وكل ما يتعلق بالطقس، وكانت هذه التجربة سببًا لزيادة اهتمامه بعلم الفلك، والذي تأجج أكثر وأكثر عندما وقع بين يديه كتاب "المناهج الحميدية في حسابات النتائج السنوية"، والذي يبحث في حركات النجوم والكواكب والشمس والقمر، فقرأه وفهم قسما كبيرا منه، ولكن بعض الأمور استعصت عليه، فقرر السفر إلى مصر ومقابلة كاتبه.
وكان كاتب الكتاب عبدالحميد مرسي غيث، ينتمي إلى محافظة الشرقية المصرية، وكان الحمار هو وسيلة المواصلات للقرية التي كان يعيش فيها الكاتب، فركب العجيري الحمار في الريف المصري طلباً للعلم، حيث تلقى منه مبادئ الفلك، ثم التحق بمرصد حلوان، وشهد تأسيس مرصد القطامية، ثم بدأ بعدها بالتواصل مع المراصد حول العالم وكان من أهمها مرصد جرنيتش ومرصد البحرية الأمريكية، وعاد للكويت مدفوعاً بهمة العلماء في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، ليبني مرصداً فلكياً على نفقته الخاصة، وقام بشراء أجهزته من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
وقدم العجيري الكثير من الكتب القيمة في مجال علم الفلك للمكتبة العربية، ففي سنٍ مبكرة أثناء دراسته، طبع أول تقويم له على أوراق صغيرة لكل شهر عام 1943، وفي عام 1944 طبع التقويم الثاني على أوراقٍ ملونة في بغداد.
ومن أهم المؤلفات التي قدمها للمكتبة العربية: "علم الميقات"، و"كيف تحسب حوادث الكسوف والخسوف"، و"خارطة ألمع نجوم السماء"، و"دورة الهلال"، و"كيف تستدل على الفصول والوجهات الأربع"، و"جدولة الوقت"، كما قدم العديد من الأبحاث المهمة منها "الخطوط والدوائر"، و"أهمية ميل الشمس"، و"رصد الكواكب والنجوم"، و"مداخلات الزمن" وغيرها.
وأصدر عام 1952 تقويما باسمه، اعتمدته الدولة الكويتية لاحقًا في جميع معاملاتها الرسمية، وتقديرًا من دولة الكويت لجهوده، منحته جامعة الكويت دكتوراه فخرية عام 1981، كما مُنح عام 1988، قلادة مجلس التعاون الخليجي للعلوم.
وحصل على الكثير من شهادات التقدير والدروع التذكارية، وتم تكريمه في الكثير من المحافل من قبل عددٍ من الجهات المحلية والإقليمية والدولية تقديرًا منهم لعلمه الواسع ومساهماته القيمة في مجال علم الفلك والرياضيات، كما حصل عام 1952 على شهادة من اللجنة الفلكية العليا للاتحاد الفلكي المصري تقديرًا لأبحاثه.
ورغم رحلته الطويلة مع العلم والمعرفة، فإنه استطاع تغيير النظرة السائدة عن شخصية العلماء، التي ترتبط في أذهان الناس بالعبوس، حيث اشتهر عن الراحل خفة الظل، وقال المقربون منه إن سببها شخصيته المحبة للفن، حيث كانت له مشاركاتٌ مسرحيةٌ في شبابه.
ولم تنل أحداث درامية عاشها الرجل من تلك الروح المرحة، ومنها وفاة زوجته وابنه الوحيد جراء حريقٍ أصاب منزله، وكانت أقواله تعكس هذه الروح، ومنها قوله عندما تعدى عمر الـ98 عاما "بلغت من الكبر عتيًا، أنا رجل جئتكم من الماضي من مستهل القرن العشرين، جاوزت 98، أرى بعين واحدة، وأسمع بأذن واحدة، وأمشي على قدم واحدة، والحمد لله على آلائه ونعمائه".
ولم ينفصل الرجل الذي كان شاهداً على أحداث تاريخية، من بينها الحرب العالمية الثانية (التي بدأت في نهاية الثلاثينيات وانتهت عام 1945)، عن هموم أمته الإسلامية والعربية، حيث عرض حقيبته المدرسية التي اشتراها عام 1927 بـ75 فلسًا في مزادٍ علني لتُباع بمبلغ 660 ألف دولار، تبرع بها للشعب اللبناني في فترة الحرب مع إسرائيل.
كما كان الرجل حريصا على دعم الثقافة العلمية في بلده الكويت طيلة حياته، فلم يبخل عليها بأجهزة مرصده الخاص، ففي عام 2015 توقف عن استخدام أجهزة المرصد، وسلم معظمها للنادي العلمي الكويتي الذي خصص له جناحًا أطلق عليه متحف العجيري.
وتستعد منصة ”فو“ الشبابية في الكويت، لإنتاج أكبر عمل فني وثائقي تلفزيوني يوثق مسيرة حياة العجيري، ويحمل العمل عنوان ”عابر المجرات“ وهو مقتبس من كتاب الدكتورة سعاد الصباح وتأليف وسيناريو وحوار مزيد المعوشرجي.
ونعاه رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم، بقوله "إن الراحل كان بحق قامة كويتية عالية أعطى الكثير لبلده الكويت".
كما نعاه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وقال في تغريدة بحسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "تعازينا لأهل الكويت وأهل الخليج في وفاة عالم الفلك الدكتور صالح العجيري رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.. رمز علمي معرفي خليجي في مجال الفلك نفخر به.. ونتمنى أن يخلفه جيل جديد من علماء الخليج في مجال الفلك وغيرها من المجالات".
aXA6IDMuMTIuMzQuMTkyIA== جزيرة ام اند امز