تدرك الدول المتقدمة والدول الحديثة الطموحة أنّ أهم استثمار مستدام في الوقت الراهن يقوم على "الاستثمار في الإنسان".
فهو المخزون الاستراتيجي لأي دولة تعمل وفق المفهوم الشمولي للتنمية، وتبني خططها على أساسه، لتعبر بطموحاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية نحو الرفاهية الاجتماعية ورغد العيش، اللذين يعدان الهدف الأسمى للتنمية المستدامة.
هذه العملية ليست أحادية الاتجاه، بل هي تشاركية قائمة بين الفرد والسلطة في أي منظومة دولية كانت، فلا تقدم بلا مواهب، ولا مواهب مثمرة بلا دعم واضح ومستدام وذي مردود ثنائي القطب، وهنا أرى تجلياً واضحاً لمفهوم "الاستثمار في الإنسانية"، كأن تضع أسساً صلبة للأجيال، تتبناها منذ الصغر وتهيئ لها سبل الانطلاق والابتكار وتستثمر في تعليمهم وصحتهم ورفاهيتهم لتلقى المردود التنموي الشامل لاحقاً.
في تقرير سابق للمنتدى الاقتصادي العالمي الخاص برأس المال البشري، تم التوصل إلى أن الجهود المبذولة لتحقيق كامل الإمكانات الاقتصادية للأفراد في جميع الدول ومختلف مراحل التنمية الاقتصادية تبوء بالفشل، وذلك بسبب خطأ في تسخير المهارات ضمن القوى العاملة، وتطوير المهارات المستقبلية، والتعزيز غير الكافي للتعلم المستمر للقوى العاملة، فالتقرير يرى أن مثل هذا الفشل في ترجمة الاستثمار في التعليم خلال سنوات الدراسة والتكوين إلى فرص عمل ذات مهارة وجودة عاليتين خلال سنوات العمل، يسهم في زيادة فجوة عدم المساواة في الدخل من خلال سد مساري التعليم والعمل، وهما عاملان أساسيان في الاندماج الاجتماعي.
إذاً الاستثمار في الإنسان يُبنى من الصفر، ويتدرج صعوداً وهو ما نراه اليوم جلياً في سياسات دولنا الخليجية، لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فنظرة فاحصة على تقارير عالمية عدة تقيس أداءهما الاقتصادي والتنموي، وبالأخص في رأس المال البشري، كفيلة بإرسال مؤشرات واضحة تعكس المسار الحكيم والمثمر والشجاع لمستقبل قائم على مفاهيم منفتحة على معايير العصر الجديد وعناصر الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الصناعي الذي يقود العالم لينقله إلى مرحلة الابتكار.
نتطلع بكل أمل وحماس لمخرجات منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار في دورته الخامسة، الذي ستستضيفه المملكة العربية السعودية الشقيقة، إذ لا شك أن هناك الكثير من الرؤى الطموحة والجدية التي ستجد فضاءً يحتويها هنا لمناقشة سبل تعزيز الأعمال التجارية والعمل الحكومي، وتحديداً تطبيقات الذكاء الصناعي وعلوم الروبوت والتعليم والرعاية الصحية والاستدامة، التي تصب أولاً وأخيراً في مصلحة البشرية جمعاء.
أن نستثمر في الإنسانية يعني أن نضخ أموالاً وميزانيات في الصحة والتعليم والبيئة وفي المياه النظيفة والترفيه والمساواة بين الجنسين ومحاربة الفقر وغيرها، ما يصبّ في صالح الأفراد والمجتمعات، وهذه الأهداف تتلاقى مع رؤية المملكة 2030 ورؤية الإمارات للخمسين عاماً القادمة.
صحيح أن الفترة الماضية مرت فيها المنطقة الخليجية والعالم بتحديات عالمية مزدوجة ناجمة عن جائحة "كوفيد-19" وانخفاض أسعار النفط، إلا أن ذلك لم يكن سوى حافز ودافع قوي للتغلب على التحديات بإيجاد حلول أكثر ابتكاراً، وهو ما تم بالفعل عبر إطلاق مجموعة من المبادرات الإنسانية من منطقتنا الناشئة نحو مختلف دول العالم ومنها المتقدمة، وبالأخص لدعم القطاع الصحي واستمرارية الأعمال في عدد من المشاريع الاقتصادية الكبيرة.
فنحن في دولة الإمارات نفتخر بنجاح إطلاق "إكسبو 2020 دبي"، وسط التحديات العالمية التي تُلقي بظلالها على مختلف القطاعات، وكان الرهان كبيراً على ذهاب مختلف القطاعات الحيوية نحو مؤشر التعافي السريع من هكذا أزمة وتأثيراتها، بل استطعنا خلق قطاعات تنافسية جديدة تواكب المرحلة بحقيبة مليئة بالمشاريع الجديدة "مشاريع الخمسين"، التي ستكون كفيلة بإحداث نقلة حضارية تتلاءم ومتطلبات الفترة الزمنية المقبلة.
ومع رؤية المملكة 2030، نجدها تدفع نحو الالتزام الجماعي بإيجاد حلول ناجحة ومستدامة لمختلف القضايا التي تواجه الإنسانية في المنطقة والعالم، منها قضايا التغير المناخي والطاقة والبيئة والقضايا الاجتماعية والرفاه، وتمكين الشباب والمرأة وخلق فرص عمل ملائمة، وإيجاد منصات استثمارية واعدة وجاذبة.
وتعد هذه الرؤية تجسيداً حقيقياً لما نسميه اليوم "الاستثمار في الإنسانية"، فكل ما فيها يتجاوز النفط والمال ويطوعهما ليحقق حياة أفضل للناس.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة