جاءت "وثيقة مكة" وقممها الثلاث التي رسمت "خريطة طريق" واضحة المعالم لاستنهاض العالم العربي والإسلامي واستعادة دوره ومكانته عالميا.
ما بين غيوم "حرب اقتصادية" تلبد سماء العالم، وفكر متطرف يسعى لإشعال فتيل حرب ساخنة في المنطقة، وإرهاب يضرب خاصرة دول بأكملها؛ ما جعل المسلمين اليوم يشكلون معظم النازحين واللاجئين فوق البسيطة.
جاءت "وثيقة مكة" وقممها الثلاث التي رسمت "خريطة طريق" واضحة المعالم لاستنهاض العالم العربي والإسلامي واستعادة دوره ومكانته عالميا ومد قاموسه بمفردات جديدة تمكنه من العبور الآمن للمستقبل.
خلال مطالعات المستقبل يجب ألا نُحكم دفن الماضي، بل العبرة أن نستفيد من الاعتذارات ونؤسس لـ"فقه المراجعات" لإنقاذ أجيال من الشباب الضال ونؤسس لـ"فقه المستقبل"؛ فالعالم اليوم بات لا يُبنى على "الخطابيات الزاعقة"، بل على المصالح.
تلك الخريطة التي تعود بنا أياما معدودات في هذا الشهر الفضيل عندما بدأ باعتذار "قطب الصحوة" الداعية السعودي المعروف عائض القرني عن أفكاره التي خالفت الدين الوسطي، وها هو يختتم أيامه بثلاث قمم في قبلة المسلمين تكللت بـ"وثيقة مكة"، وكلا الحدثين فكك أوهام التطرف الذي ظن أنه سيقيم في أرحام المنطقة إلى الأبد.
"بكل صراحة وشجاعة باسم الصحوة أعتذر للمجتمع عن الأخطاء التي خالفت الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام، وخالفت الدين الوسطي المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين".. "إنني أغلقت ذهني فوقعت في أخطاء كثيرة، ولم ينفع عمري ولا درجتي العلمية، ولا ما حصلت عليه من شهادات ومستويات معينة من العلم".
بين العبارتين ما يقترب من العقد إلا قليلا؛ فالأولى لـ"قطب الصحوة" عائض القرني وجاءت مع مطلع شهر رمضان، والثانية لأستاذ العقيدة الإسلامية بجامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز الحميدي، والتي شغلت مراجعاته لأفكاره المتطرفة الساحة عام 2010.
والمراجعة الأولى للشيخ الحميدي، وما أثارته من زخم كبير كونها من متخصص بالشريعة كان من قيادات ما يسمى "تيار الصحوة"، والثانية من الشيخ القرني كونه من أحد أبرز "أقطاب الصحوة الواهية" وتربت على محاضراته أجيال من الشباب في المنطقة العربية، اتفقت على عدة نقاط أساسية ينبغي أن نلفت إليها بدقة:
أولا: الترويج لمفهوم "مواجهة الدولة" وإعلان الخصومة لها ولعلمائها، وهذا ما تسعى له كل القوى المتطرفة في المنطقة عبر هدم مفهوم الدولة والمواطنة وهو اللبنة الأولى والأساسية للمشروع التخريبي في المنطقة، وهنا لا بد أن نتذكر كل حرف قاله القرني في اعتذاره؛ حيث قال: "مواجهة الدولة كانت خطأ استراتيجيا من الصحوة وتهميشهم للعلماء أدى إلى تفاقم هذه المشكلة، عن محاولات فرض الوصاية الصحوية على الدولة؛ فقد كنا نضغط بالشعب على الدولة".
ثانيا: إن النهج المسيطر على الفقه هو القائم على النص، أو ما يطلق عليه اصطلاحا "النهج الإخباري"، وهذا ما أوصد باب العقل والاجتهاد على "عبادة النص".
ثالثا: التركيز على مفهوم "الولاء والبراء" والموقف من غير المسلمين وهي المفاهيم التي كانت بمثابة القنابل من قبل جماعات التطرف والغلو التي أسست فقه "دار الحرب" تجاه غير المسلمين بدعوى "النصرة والجهاد".
ومن مراجعات الماضي وتفكيك مفاهيمه خاصة مفهوم و"الولاء والبراء" إلى مطالعات المستقبل أو "فقه المستقبل" أو "الفقه الاستراتيجي" إذا جاز التعبير، تأتي "وثيقة مكة" التي أقرتها 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة يمثلون 27 مكونا إسلاميا من مختلف المذاهب والطوائف، وفي طليعتهم كبار مفتيها، وترسم رؤية حضارية متكاملة يمكن إجمالها في النقاط التالية: التصدي لممارسات الظلم والصدام الحضاري وسن التشريعات الرادعة لمروجي الكراهية ورفض العنصرية، بناء دولة المواطنة والدعوة إلى الحوار الحضاري وعدم التدخل في شؤون الدول مهما تكن ذرائعه المحمودة، التأكيد على أن التاريخ في ذمة أصحابه وبراءة الأديان والفلسفات من مجازفات معتنقيها ومدعيها، مكافحة الإرهاب والظلم والقهر ورفض استغلال مقدرات الشعوب وانتهاك حقوق الإنسان، ظاهرة "الإسلاموفوبيا" وليدة عدم المعرفة بحقيقة الإسلام وإبداعه الحضاري وغاياته السامية.
و"وثيقة مكة"، وقبلها "وثيقـة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك" التي صدرت في أبوظبي في فبراير/شباط الماضي، واستندت الوثيقتان إلى "صحيفة المدينة المنورة" التي عقدها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، قبل 14 قرنا لحفظ تنوع الدولة الإسلامية وتعايشها، هي "خريطة طريق" واضحة المعالم نحو المستقبل.
وخلال مطالعات المستقبل يجب ألا نُحكم دفن الماضي، بل العبرة أن نستفيد من الاعتذارات ونؤسس لـ"فقه المراجعات" لإنقاذ أجيال من الشباب الضال ونؤسس لـ"فقه المستقبل"؛ فالعالم اليوم بات لا يُبنى على "الخطابيات الزاعقة"، بل على المصالح، والحرب التجارية بين الصين وأمريكا تكشف عن أنه لا مقعد في المستقبل شاغرا لمن تيبست عقولهم وأغلقت على "الولاء والبراء".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة