في مايو/أيار 2017، أعادت 48 ساعة من الحوار، تصميم قواعد اللعبة لنظام عالمي جديد تم ضبط بوصلته بدقة في الرياض.
في مايو/أيار 2017، أعادت 48 ساعة من الحوار تصميم قواعد اللعبة لنظام عالمي جديد تم ضبط بوصلته بدقة في الرياض، قلب المشهد العالمي حينها. كانت المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت محط أول جولة للساكن الجديد في البيت الأبيض دونالد ترامب في زيارة غير مسبوقة سبقت 3 قمم تاريخية.
الوضع اليوم لا يشبه الأمس ورسالة قمم مكة المرتقبة ستكسر حالة الترهل والمراوحة على الصعيدين العربي والإسلامي، ولن تكون كسابقتها، وستختصر المسافات لترسم ببصيرة مفعمة الطريق نحو المستقبل عبر مسارين الأول ردع استراتيجي فاعل لأي تهديد، والثاني استعداد للدفاع عن مسار التنمية الشاملة.
فقد استضافت الرياض، أولاً: قمة "سعودية – أمريكية" ضخت دماء جديدة في التحالف الاستراتيجي بين البلدين، وثانياً: قمة "خليجية – أمريكية" أعادت ترسيخ جسور التعاون بين الجانبين، وثالثاً: قمة "عربية – أمريكية" أوقفت تعليب الأفكار المحنطة التي عرقلت إشارة المرور لمستقبل المنطقة وأوقعتها في براثن التطرف.
وبعد عامين وللمفارقة أنه في الشهر ذاته مايو/أيار، ستكون المملكة السعودية القلب النابض للعالم الإسلامي، مرة أخرى في قلب المشهد العالمي؛ حيث ستستضيف سلسلة قمم تاريخية في توقيت عقدها وتزامنها ودلالتها السياسة والاستراتيجية. فقد دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى قمتين طارئتين خليجية وعربية، تسبقان القمة الإسلامية العادية التي ستعقد في مكة المكرمة نهاية هذا الشهر.
وما بين قمم الرياض والتي كان شعارها "العزم يجمعنا"، وقمم مكة وشعارها "يداً بيد نحو المستقبل"، ترتسم العديد من المحددات الاستراتيجية المهمة:
أولاً: قمم الرياض أسقطت أقنعة من يعيشون في أرحام الماضي، وأعادت أشرعة المنطقة نحو المستقبل، بينما قمم مكة تتجاوز مرحلة التوجيه، وتبدأ الانطلاق نحو مرحلة القيادة وبلورة دور عربي وإسلامي على متن سفينة النظام العالمي الجديد.
ثانياً: قمم مكة تعيد "فواعل القوة الأخلاقية" للتأثير على الصعيد الدولي، وذلك انطلاقاً من رمزية قبلة أكثر من مليار مسلم، والتي تعرضت لتهديد إرهابي، وتعلن وفاة "ادعاءات نصرة المستضعفين" التي يتشدق بها نظام ولاية الفقيه وحلفاؤه.
ثالثاً: قمة مكة فرصة أمام قطر للتخلص من مرض "متلازمة جورباتشوف"، وهو مرض سياسي يصيب أنظمة الدول التي تخشى من مصارحة نفسها وشعوبها بأخطائها، ويجعلها تعيش معزولة ومنزوية تحمل هوية مائعة مغتربة بعيداً عن محيطها الطبيعي.
رابعاً: قمم مكة هي نواة للتحرك لاستعادة الردع الاستراتيجي العربي، ودفع محركات "ناتو عربي" بات ضرورة ملحة لحفظ صمام الأمان العربي. فالردع كمفهوم تقليدي قائم على فكرة تركيز القوة العسكرية، من أجل إخافة الخصوم وإثنائهم عن اللجوء لمغامرات غير محسوبة.
أما الردع الاستراتيجي فهو مرادف لمفهوم "القوة الناعمة" ويعتمد على اللجوء لمحددات أخرى، سياسية واقتصادية ودبلوماسية وقانونية وعلمية وأيديولوجية بهدف ردع أي فعل من الخصوم.
ويتجسد الردع الاستراتيجي فيما تقوم به المملكة العربية السعودية التي حجزت قبل نحو 3 سنوات مقعدها نحو المستقبل بإعلان رؤيتها للمملكة 2030، التي يتبناها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، وارتكزت على 3 محددات أساسية هي: العمق العربي والإسلامي للمملكة، والقدرات الاستثمارية الضخمة التي تتمتع بها، وموقعها الجغرافي المتميز.
وبلغة الأرقام التي تحققت بالفعل خلال الأشهر القليلة الماضية، فقد تحولت "أرامكو" من شركة لإنتاج النفط إلى عملاق صناعي يعمل في أنحاء العالم، وحققت الشركة دخلاً بلغ 111 مليار دولار العام الماضي، أي أنها باتت أكثر شركات العالم دخلاً وربحاً.
فالمملكة التي تقف على أعتاب إنشاء أطول برج في العالم، وأكبر متحف إسلامي، نجحت في هندسة نسختها من التنمية ومن الردع الاستراتيجي وبدأت في مرحلة قيادة العالم العربي في المعركة، لوقف الإرهاب والتطرف، واستعادة الردع الاستراتيجي لحماية استقرارهم.
وقادت المملكة إلى جانب الإمارات والكويت، مبادرتين لدعم اقتصادات كل من الأردن والبحرين، بهدف تعزيز اقتصاداتهما في مواجهة التحديات المالية لهما. في يونيو/حزيران 2018، عقدت البلدان الثلاثة في مكة المكرمة، قمة مع الأردن، أفضت إلى دعم للأخير بقيمة 2.5 مليار دولار، على شكل ودائع في البنك المركزي الأردني، وتقديم حزم قروض واستثمارات. وفي أكتوبر/ تشرين أول 2018، عقدت البلدان الثلاثة قمة مع البحرين، خرجت بتقديم دعم للأخيرة بقيمة 10 مليارات دولار، على شكل قروض وودائع في البنك المركزي واستثمارات. وفي أبريل/نيسان الماضي، أقرت السعودية بالتعاون مع الإمارات حزمة مساعدات مشتركة، للسودان، بقيمة 3 مليارات دولار، لدعم الاقتصاد وتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب السوداني. والأسبوع الماضي، حوّلت السعودية وديعة مالية بقيمة 250 مليون دولار، لحساب البنك المركزي السوداني؛ إنفاذاً للقرار الصادر الشهر الماضي.
الوضع اليوم لا يشبه الأمس ورسالة قمم مكة المرتقبة ستكسر حالة الترهل والمراوحة، على الصعيدين العربي والإسلامي، ولن تكون كسابقتها، وستختصر المسافات لترسم ببصيرة مفعمة الطريق نحو المستقبل عبر مسارين الأول ردع استراتيجي فاعل لأي تهديد، والثاني استعداد للدفاع عن مسار التنمية الشاملة، والتي لن يتمكن عشاق العيش في الظلمة من إيقاف مسيرتها قيد أنملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة