من بين ما يتوجب دراسته بدقة في هذه الأزمة هو موقف الإعلام العربي المعادي للمملكة وقيادتها وشعبها.
تابعت منذ الأيام الأولى تطورات أزمة الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وأدركت منذ البداية أنها ستنطوي على دروس مهمة في العوامل الحاكمة للعلاقات بين القوى الإقليمية والدولية في المرحلة الراهنة، وهذا بالفعل ما كشفته تطورات الأزمة وتصاعدها إلى حد بلغ التهديد والضغوط السياسية الهائلة التي مورست على المملكة العربية السعودية الشقيقة دون أي سند أو دليل حقيقي عدا ما يتردد عبر وسائل الإعلام!
اللافت أن من يمارسون التهديد يلوحون بأدلة يعترفون بأنها وردت في وسائل الإعلام! ولأني أدرك أن ما يقولونه قد لا يكون الحقيقة، وأن المسألة برمتها انتقلت من حدود البحث عن الحقيقة إلى مربع التوظيف والابتزاز السياسي في أبشع صوره، فإنني أرى أن علينا -كمراقبين- التوقف كثيراً عند هذه الأزمة والتعمق في فهم أبعاد كل موقف ومحركاته ودوافعه الاستراتيجية، والخروج بنتائج مفيدة في صياغة ورسم سياسات الدول العربية والخليجية، ولاسيما تلك تبدو في مرمى الاستهداف سواء لتمسكها بالدفاع عن أمنها وسيادتها واستقرارها ومصالح شعوبها، أو لثرواتها ومواردها الطبيعية أو الاثنين معاً.
نثق أن وقوف شعب المملكة وراء قيادته وكذلك وقوف الدول الشقيقة الحليفة معها سيكون خير داعم وكاشف للمؤامرة، وسيتم تجاوز الأزمة ولكن ستبقى في النفوس غصة وسيبقى حساب الشعوب للحاقدين والمتآمرين عسيراً
من بين ما يتوجب دراسته بدقة في هذه الأزمة هو موقف الإعلام العربي المعادي للمملكة وقيادتها وشعبها، وهو إعلام تقوده قطر ويتمركز معظمه في تركيا ولندن، إضافة إلى شبكة "الجزيرة" التي بذلت جهوداً غير عادية منذ الساعات الأولى للأزمة في الترويج عالمياً لفرضية اتهام المملكة بقتل خاشقجي، ويحسب لهذه الشبكة المتآمرة أنها روجت لذلك قبل تدشين مرحلة التسريبات التركية التي بدأت في اليوم الرابع تقريباً من اختفاء الكاتب السعودي.
يحسب لهذه الأزمة كذلك أنها كانت كاشفة بكل المقاييس والمعايير لأمور عدة، أولها أن الإعلام بات جزءاً رئيسياً حاسماً في الصراع الإقليمي والدولي، وأن أهميته ربما تفوق ترسانات الأسلحة في بعض الأزمات، التي لا يمكن اللجوء فيها إلى الحروب والصراعات العسكرية، باعتبار أن ساحتها تتمثل في الرأي العام وكسبه وتوسيع دائرة الاستقطاب حول قضايا ومواقف معينة، تمهيداً لترجمة المكاسب الإعلامية المحققة على هذا الصعيد إلى مواقف سياسية واستراتيجيات يتقبلها الرأي العام العالمي ضد هذه الدولة أو تلك.
جميعنا ندرك محورية الإعلام ضمن أدوات حروب الجيل الرابع، ولكن هذه الأزمة تحديداً أثبتت أن هذا النمط من الحروب يمكن أن يرتكز على هذه الأداة فقط دون غيرها كرأس حربة، وأقصد الإعلام بكل أشكاله وتطبيقاته، التقليدية منها والجديدة، وعلى سبيل المثال إذا كان الإعلام القطري والإخواني الموالي لتركيا وغيره ممن يحسبون أنفسهم معارضين لدولهم، ويقيمون في هذه الدولة أو تلك، يروجون لفكرة الإعلام التابع للأنظمة، فإنهم يتناسون أيضاً أنهم أنفسهم غارقون في العمالة لمصلحة مشروعات ومؤامرات خبيثة تحاك ضد شعوبهم ودولهم، وأنهم يستخدمون كأدوات لتنفيذ هذه المشروعات والمؤامرات، سواء بعلم ووعي منهم أو دون وعي، والأولى هي الأرجح، بنظري، لأن المسألة واضحة وضوح الشمس في منتصف النهار.
الحقيقة أيضاً أن هذه الأزمة كاشفة للمواقف الخفية لدولة مثل قطر، التي حاول رئيس وزرائها السابق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني أن يظهر بمظهر المتباكي، الذي يخشى على الدولة السعودية، حين "تمنى" على موقع "تويتر" ألا يتم ابتزاز السعودية بسبب ما وصفها بـ"السياسات غير المدروسة"، معبرا عن أمنياته بألا يتزعزع استقرار السعودية! في حين أن وسائل الإعلام التابعة والممولة من ميزانية بلاده هي من تقف وراء سكب الزيت على النار منذ بداية الأزمة، بل هي من تدبر السيناريوهات التي ترددها وراءها كالببغاوات وسائل الإعلام الإخوانية في إسطنبول ولندن!
صحيح أن الأزمة لم تأت بجديد على صعيد المواقف الموالية والمعادية للمملكة إعلامياً، وإلى حد ما سياسياً، ولكنها جاءت كاشفة بامتياز لحجم الحقد والغل الدفين تجاه المملكة وقيادتها وشعبها، فالمسألة هذه المرة ليست خلافاً سياسياً بل تغذية تهديدات تطال أمن واستقرار دولة ومصالح شعب بأكمله، فالحملات المسعورة لم تتكن تتباكى على دماء خاشقجي كما يزعمون، ولا على حقوق الإنسان طبعاً وكلنا يفهم ذلك، بل هي حملات تستخدم ذلك في ترويج مزاعمها وتعميق العداء وشحن الرأي العام في العالم للضغط على الحكومات لتبني مواقف معادية للمملكة وقيادتها!
للأسف ترك الحبل على الغارب وسمحت فوضى العلاقات الدولية بشن حملات تهدد مصالح الشعوب، ولم يفطن الجميع لأغراض مروجي المزاعم والاتهامات، التي لن تسقط بسهولة لأنه ببساطة هناك من يريد إثباتها والإصرار على ترويجها وإلصاقها بالمملكة، ولا يبحث عن الحقيقة بل يبحث عن الابتزاز وتصفية الحسابات.
هل يتصور أحدكم أن قطر باتت بين عشية وضحاها من أشرس المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم؟ ماذا إذن عن تقارير "امنيتسي" التي تتقاطر كالمطر حول العمالة الأجنبية في منشآت كأس العالم؟!
نثق أن وقوف شعب المملكة وراء قيادته وكذلك وقوف الدول الشقيقة الحليفة معها سيكون خير داعم وكاشف للمؤامرة، وسيتم تجاوز الأزمة، ولكن ستبقى في النفوس غصة وسيبقى حساب الشعوب للحاقدين والمتآمرين عسيراً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة