لطالما كانت قضية فلسطين هي الوقود الذي تشعل به السرورية حرائقها مع الدولة.
يتداول التيار الراديكالي هذه الأيام مطويّة مطولة كتبها رمز من رموز السرورية في السعودية والمنطقة، وقد عنونها بـ«المسلمون والحضارة الغربية»، والمتأمل في مضامينها الطويلة والمسهبة يجدها لم تخرج قيد أنملة عن الخطاب السروري السائد الذي بلغ ذروته في الثمانينيات والتسعينيات، واتخذت من المنابر والمنصات الدعوية ميداناً لصياغة خطاب هو مزيج من الدعوية الدينية وترسيخ المعارضة السياسية، حيث انتشرت عناوين متشابهة لدى جمع منهم تناقش مواضيع مثل: «سقوط الدول، التنصير، كفر الحكومات، الارتهان للغرب، العداء مع الولايات المتحدة، قضية فلسطين». وكل تلك الموضوعات تتم معالجتها بطريقة سياسية راديكالية تتعالى على الواقع وظروفه، وكان للنهج القطبي دوره في تثبيت عرى الخطاب ودفعه بمقومات أدبية وحماسية تثير حماسة الشباب وتجعلهم بحالة استعداد واستنفار لممارسة أي نشاط من الدعوة وصولاً إلى القتال.
التيار السروري تعرض لضربات قوية جعلته أقل قدرة على الحركة بالواقع، بسبب وعي الحكومة بأن هذا التنظيم هو مصدر لكل الأعطال التنموية وانتشار الكراهية الكارثية، وتغوّل الأفكار التكفيرية، وبعد أن تم حصار التيار راح يبحث عن منافذ أخرى للتأثير في المجتمع
تناولت المطوية المتداولة حكايا قديمة لم تعد أمثلتها اليوم قائمة، فالدولة الإسلامية المنشودة توجد في الأذهان ولا توجد بالأعيان، وحين جرّب المتطرفون إقامتها بدا لنا نموذج «داعش» الذي يبرره الكاتب في الكتاب آنف الذكر ويجعل وصم التنظيم بالخطأ المطلق مشركاً الدول بأخطاء توازي ما ينسب إلى التنظيم من مثالب، ومن هذه الزاوية ندخل على الدعم النظري الذي تقدمه السرورية للإرهاب، وهو موضع نفي دائم كلما تمت محاججتهم أو ملاحقتهم بالأدلة الصريحة على فتاويهم بالقتال والخروج على الحكومات، بنظري أن هذا النص هو تبيان ناصع وبرهان قاطع على الدور السروري في نشأة التنظيمات الإرهابية ومنها تنظيما «القاعدة» و«داعش»، هذا بالشراكة النظرية والميدانية مع «الإخوان المسلمين» وحركات «التكفير» و«الجهاد» الأخرى.
ما كان يطرح بالكاسيتات طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات أصبح الآن يعاد تكراره من خلال مثل هذه المطوية الطويلة، ومن ذلك الإيغال في بثّ الكراهية بكل الحكومات وعلى رأسها السعودية باسم الدفاع عن قضية فلسطين، ولكن المؤلف في مطويّته برأ نفسه من الدخول بالحديث عن دولة قطر، تحت زعمه بأن المؤلف تم اكتماله قبل أن تبدأ الأزمة الدولية مع قطر، ولكنه يناقش برامج ترفيهية أخرى أقيمت بعد الخلاف مع قطر! وفي هذا تناقض صريح وفيه هروب من النقاش المهم على الأقل بدور قطر التاريخي في التطبيع مع إسرائيل، خاصة وهم يزعقون ليل نهار حول قضية فلسطين والدفاع عن حركة حماس.
إن التيار السروري تعرض لضربات قوية جعلته أقل قدرة على الحركة بالواقع، بسبب وعي الحكومة بأن هذا التنظيم هو مصدر لكل الأعطال التنموية وانتشار الكراهية الكارثية، وتغوّل الأفكار التكفيرية. وبعد أن تم حصار التيار راح يبحث عن منافذ أخرى للتأثير في المجتمع عبر رسائل خطيرة تتداول بالتطبيقات الإلكترونية تدغدغ مشاعر الناس ضد الحكومة، ولكن كاتب هذه المطوية يعرف ومن معه بأن التيار السروري في حالة انهيار كاملة، فأراد بعثها من جديد، فيعزّ عليه رؤيتها تفتقر إلى المنظّرين المنقذين للتيار وأهله من الانقراض والضياع.
لطالما كانت قضية فلسطين هي الوقود الذي تشعل به السرورية حرائقها مع الدولة، ولمن رجع قارئاً ومنقباً في تراث السرورية بمجلاتها مثل «السنة» و«البيان» و«الأسرة» وبأشرطتها المتداولة، وبأناشيدها الحماسية، ومسارحها التمثيلية، ومراكزها الصيفية، يجد أن الحديث عن قضية فلسطين مجرد مسرحية مفتعلة لشيطنة الحكومات القائمة، من خلال تشبيهها بإسرائيل التي تعتدي على شعبٍ بأكمله، ولذلك مع كل حدثٍ مفصلي تجدهم يشبّهون أي شعب بفلسطين، وأي حكومة بإسرائيل، حتى باتت قصيدتهم المفضّلة المتداولة ما قاله أحمد محرّم:
في حمى الحق ومن حول الحرم *** أمة تؤذى وشعب يهتضم
فزع القدس وضجّت مكة *** وبكت يثرب من فرط الألم
أما صاحب المطويّة المشار إليها التي يهاجم فيها الأسر الحاكمة والحكومات، فقد كتب عن فلسطين قصيدة أيضاً، ولكن مضمونها يشير إلى غير فلسطين وغير إسرائيل، ومما قاله:
يرعب الراجمات مقلاع طفلي *** وشراعي يهابه الأسطول!
لم تكن فلسطين وحدها، بل استغلت حتى القضايا الإنسانية الأخرى مثل أزمة كشمير، والفلبين، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو، وبقية النزاعات الموجودة بالعالم، وكل الخلل يوضع على الحكومات، هذا مع دور السعودية القوي والملك فهد تحديداً في دفع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون لضرب صربيا وإجبارها على وقف إطلاق النار وقد كان ذلك، وهذا براوية كلينتون نفسه في حوارٍ متلفز، ولكنهم لا ينسبون للحكومات أي فضل.
لقد تجاوزت السعودية ذلك التاريخ المشوه، وعلينا نسيان تلك المرحلة، وكل الثرثرة التي تطرح حالياً هي عناصر مقاومة ضعيفة لتيار التغيير والتنمية الصاعد، ولذلك فإن من لم يركب سفينة النجاة سيغرق بالطوفان، وما من مأوى لهم ولا عاصم.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة