لو أن كل قادة العالم، وكل قيادات العالم الإسلامي زاروا كاتدرائية أقباط مصر لن يعادلوا ما تعنيه زيارة الأمير محمد بن سلمان
لم يشهد المصريون؛ مسيحيين ومسلمين، بهجةً وحبوراً وانشراحاً على وجه البابا تواضروس مثل تلك التي استقبل بها الأمير محمد بن سلمان، يكاد رمز الأقباط الأرثوذكس يطيرُ فرحاً من شدة تأثره بزيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية، لأن البابا تواضروس وكل القيادات الكنسية في مصر يدركون قيمة وأهمية ورمزية زيارة الأمير للكاتدرائية.
بدون مبالغة نستطيع أن نقول لو أن كل قادة العالم، وكل قيادات العالم الإسلامي زاروا كاتدرائية أقباط مصر لن يعادلوا ما تعنيه زيارة الأمير محمد بن سلمان، لن تتحقق البهجة والسعادة وجبر الخواطر مثلما حققته زيارة ولي العهد، ومَن يعرف المجتمع المصري بعمق يدرك ذلك، ويفهم قيمة دخول الأمير إلى الكاتدرائية، وزيارتها قبل زيارة الأزهر الشريف، رمزية في غاية الأهمية، لكي نفهمها لا بد من فهم الحكاية من البداية إلى النهاية.
في عام 2003 أديت فريضة الحج مع والدي، رحمة الله عليه، وقبل السفر إلى صعيد مصر أعددت له كل الهدايا التي يتوقعها أهل قريتي، وهي بسيطة جداً؛ مسبحة أو طاقية أو "شال" لكل مَن يأتي للتهنئة، وهم بالمئات في العادة، ولكنني سألته رحمه الله عن أي شيء خاص يريده لصديق خاص، فقال لي "عمك قلدس عاوز جلباب وشال وطاقية من اللي شافوا الكعبة فترة طويلة"، وعمي قلدس قبطي من قريتنا؛ يمتهن النجارة، وهو صديق عمر والدي، وأولاده ورثوا الصداقة مع إخوتي، فجميع النجارة التي نحتاجها للبيوت أو الزراعة تأتي من عندهم.. سألت والدي ماذا تقصد بشراء أشياء شاهدت الكعبة فترات طويلة؟ فقال لي: يعني تشتري من محل مواجه للكعبة مباشرة، وليس من محلات في الشوارع الجانبية.. قلب عمي قلدس متعلق بالكعبة وبالديار المقدسة، وهو قبطي متمسك بدينه.. هكذا كانت تربية أهل مصر حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وهكذا كانت علاقة المسلمين بالمسيحيين، وهكذا كان التسامح والتعايش روحاً تسري في الجميع، لا يعرف غيرها في الحياة.
زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية لمقر الكنيسة القبطية في مصر حملت رسالة تاريخية، تضع نهاية لحقبة سوداء عاشها العالم العربي، كان جوهرها الكراهية والتفرقة والتطرف، وتؤسس لمرحلة جديدة من التسامح والتعايش والتعددية واحترام الاختلاف وعدم التعرض لعقائد الناس أياً كان الموقف منها
في ثمانينيات القرن الماضي رجعت إلى مصر جحافل من العمالة المهاجرة إلى الخليج العربي، منهم متعلمون، وغالبيتهم أنصاف متعلمين، أو أميون، رجع الكثير منهم بعقل جديد، وكأنه ولد هناك من جديد، كأنه خرج من رحم زواج المتعة الذي حدث بين الإخوان المهاجرين من زمن عبدالناصر، ودعاة الصحوة في السعودية، أنتج ذلك الزواج بين الطرفين ذرية هجينة يُطلق على بعضهم "السروريون"، أو "الصحويون".. إلخ، جاء هؤلاء يدعون الناس إلى تدين جديد، موجه في الأساس ضد المسيحيين والصوفية، وتشبّه هؤلاء بالدعاة الصحويين في السعودية، ولبسوا نفس لباسهم، وأطالوا لحاهم بنفس الطريقة، وكانوا يبدون في أعين الناس كأنهم سعوديون في كامل مظهرهم.
انتقل فكر الصحوة إلى مصر بصورة شرسة ومتوحشة في كثير من الأوقات، فكان همهم التعرض لعقائد الأقباط على منابر المساجد، التي يسكن بجوارها أقباط، وبجوار الكنائس، فيكون القبطي جالساً في بيته يوم الجمعة، وإمام المسجد المجاور يسخر من عقيدته، ويصفها بأبشع الألفاظ.. استمرت هذه الحال ثلاثة عقود حتى يناير 2011، ثم ازداد هذا التيار توحشاً بعد يناير 2011، حيث تحوّل هذا التيار إلى العمل السياسي، وصار رموزه حاضرين بقوة في المشهدين السياسي والثقافي، وهنا بدأت تظهر فتاوى تحرّم على المسلم أن يهنئ جاره القبطي بالعيد، بعد أن كانوا يتبادلون كل شيء، ويتشاركون في كل شيء؛ في الأفراح والأتراح، وفي كل المناسبات، وصارت قضية تهنئة الأقباط بالعيد مسألة محرّمة عند هذا التيار، يتصدى لها دعاة يظهرون على شاشات الفضائيات بلباس سعودي، وسمت سعودي، ونسبة للمدرسة الفكرية السعودية.
هنا حدث نوع من التعانق والتعلق بين ما يقوم به الدعاة غير الأزهريين في مصر من أتباع الدعوة السلفية، وبين السعودية، واستقر في وعي أقباط مصر أن هذا هو فكر السعودية، وهذا هو فقهها، وهذا هو تدينها، وكأن السعودية هي التي دفعت عدماء الدين هؤلاء إلى أن يثيروا تلك الفتن، والحقيقة أنهم نبت مصري، من نتاج الجسد المصري؛ سواء في الوطن أم في المهجر.
هنا تأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان لكاتدرائية الأقباط في مصر، ويأتي ترحيب البابا به ترحيباً جعل الأنبا تواضروس يتكلم بصورة عاطفية جياشة متدفقة، يرحب بولي العهد باسمه، وباسم المجمع المقدس، والآباء والكهنة، والوقف القبطي، وجميع الأقباط.. إلخ، حتى أنه يوشك أن يسمي كل أقباط مصر ليقول لولي العهد، جميعنا سعداء بالزيارة، وجميعنا مبتهج، ومدرك لمغزاها ودلالتها.
هذه الزيارة هي في جوهرها جبر لخاطر أقباط مصر، ومسح لما علق في النفوس من آلام تسبب فيها أبناء الصحوة الهجينة وأحفادها.. هذه الزيارة تقول لأقباط مصر: إن السعودية لن تسمح بعد اليوم أن يتمسح بها أحد لمهاجمه الأقباط، إن السعودية لن تقبل بعد اليوم أن يتعدى أحد باسمها على أتباع دين آخر، وإن السعودية تقبل التعددية الدينية، وتؤمن بالتسامح، وتعلي قيمة التعايش بين أتباع الأديان، وإن السعودية ممثلة في ولي عهدها تزور الكاتدرائية القبطية، لذلك لن يكون مقبولاً بعد اليوم أن يخرج داعية ينسب نفسه للمدرسة الفقهية السعودية، ويفتي في تهنئة الأقباط بعيدهم هل هي حلال أم حرام، لقد زار ولي العهد الأقباط وهنأهم في يوم عادي، وليس في عيد، وجلس في كنيستهم، فهل بعد ذلك من المنطقي أن يثار سؤال عدمي عبثي حول تهنئة الأقباط بعيدهم؟!
زيارة الأمير محمد بن سلمان للكاتدرائية تزيل الآثار الخارجية لحركة الصحوة، وتقول للعالم، لقد انتهى ذلك العهد الصحوي الذي كان للأسف خمينياً بامتياز، فهذه الصحوة ظهرت في الأساس تأثراً بالثورة الإيرانية، وردة فعل لها، ومقتدية بها، فقد كان الخميني مَثلَها الأعلى، وكانت تعد الأرض لثورة على نفس النهج الخميني، ولكنها للأسف فجّرت المجتمعات وأربكتها وشتتها، فلم تكن صحوة، بل كانت عكسها تماماً، ويصدق فيها قول الشاعر كامل الشناوي في قصيدته الرائعة لست قلبي: "صحوة الموت ما أرى.. أم أرى غفوة الحياة"، فقد كانت صحوة للموت وغفوة للحياة.
زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية لمقر الكنيسة القبطية في مصر حملت رسالة تاريخية، تضع نهاية لحقبة سوداء عاشها العالم العربي، كان جوهرها الكراهية والتفرقة والتطرف، وتؤسس لمرحلة جديدة من التسامح والتعايش والتعددية واحترام الاختلاف؛ وعدم التعرض لعقائد الناس أياً كان الموقف منها، بل احترام عقائدهم وتقديرها وعدم المساس بها، هذه هي رسالة الأمير محمد بن سلمان للعالم من داخل كاتدرائية العباسية في قلب القاهرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة