"رحلة الحج المغربية".. تحصيل لرضى الله وسياحة في الأرض
دراسة تستعرض الكثير من النصوص التي دونها الرحالة المغاربة تعكس أن رحلات الحج المغربية تجمع بين تحصيل رضى الله والسياحة في الأرض.
جمعت رحلات الحج التي قامت بها شعوب المغرب العربي بين تحصيل رضى الله والسياحة في الأرض.
وقال الدكتور موسى هيصام، الأستاذ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجزائر في دراسة له بعنوان "وصف الحجاز في رحلات الحج المغربية"، إن إقبال الحجاج المغاربة على الحج بهذه النية، أكسبها طابعا مميزا عن رحلات الحج التي كانت تقوم بها شعوب أخرى.
وأضاف في الدراسة المنشورة بمجلة "الاتحاد العام للآثاريين العرب" التي تتخذ من القاهرة مقرا لها، أن الرحلة تحولت بهذه النية إلى بحر من المعارف والاكتشافات، من خلال تدوين أصحابها مختلف الملامح الاقتصادية والمعمارية والثقافية والجغرافية التي خدموا بواسطتها غيرهم ممن عزموا على تأدية الفريضة.
وتستعرض الدراسة الكثير من النصوص التي دونها الرحالة المغاربة، والتي رأى الباحث أنها تعكس هذه الرؤية، ومنها وصف رحالة يدعى "العربي المعسكري" لميناء جدة.
وقال المعسكري في وصفه للميناء: "ثم نزلنا إلى البلد، فكان ميناؤها مملوءا بالمراكب البحرية التي أتت إلى هذا الثغر، حتى اسود وجه البحر لكثرتها، ويحيط بجدة سور، وهي مركز تجاري لعموم الحجاز، منها صادراته وإليها وارداته وتجارتها الرئيسة في الحبوب، خصوصا القمح والدقيق".
وتطرق في الوقت ذاته إلى وصف شوارعها، مؤكدا حرص ساكنيها على نظافة الشوارع، مشيرا إلى وجود مرافق مختلفة من مطاعم وغيرها في المسافة بينها وبين مكة تحولت إلى استراحات للحجيج المارين عبر ربوعها.
مسارات الحج
وتناولت كتابات أخرى أوردها الباحث في دراسته المسارات المختلفة التي يسلكها المغاربة في رحلتهم إلى الحج، ومنها نزولهم ببلاد الشام، لمرافقة الركب الشامي الذي ينطلق من دمشق متجها إلى الحجاز.
ويشير الباحث إلى وصف ابن بطوطة هذا المسار والذي يبدأ بقرية الكسوة، فزرعة "تسمى اليوم درعة"، فبصرى الشام "على الحدود الأردنية السورية اليوم"، فمعان، فعقبة صوان "بالأردن اليوم".
وعقبة صوان كما وصفها ابن بطوطة، هي آخر العمران، ثم بعدها صحراء قاحلة شاسعة، عمقها يصل بالحاج إلى تبوك، وكان من عادة الحجاج غداة حلولهم بـ"تبوك" يتجردون من سيوفهم، ومن أي أداة حربية أخرى استعدادًا لولوج الأماكن المقدسة، قائلين: "هكذا دخلها الرسول صلى الله عليه وسلم".
وإضافة لهذا المسلك، اختار آخرون المسار المصري، الذي وصفه أبي سالم العياشي في رحلته، ويبدأ بميناء المويلح الذي كان ينزل به الحجاج العابرين بين مصر والحجاز عبر بحر القلزم "البحر الأحمر"، وحدد في وصفه سعر السفر للراكب الواحد من مصر إلى المويلح "7 قروش ونصف".
وإمعانا في إفادة من سيخلفونهم في رحلة الحج، وصفت كتابات الرحالة المغاربة ما عاينوه بأنفسهم، من منابع المياه والآبار، والخزانات التي استحدثت لتجميعها وجعلها في متناول الحجاج، كونها تعد العصب الرئيسي في هذه الرحلة التي تهفو إليها الأفئدة، لأن فقدانها أو عدم تحديد مواقعها، يترتب عنه مخاطر جمة، أبرزھا فقدان الأنفس.
ونقل الباحث عن ابن بطوطة وصفه للآبار في تبوك، قائلًا: "بها عين ماء لا ينضب ماؤها، وتبقى الجمال حولھا 4 أيام للراحة والسقاية، وتكون سقایتھم في أحواض مصنوعة من جلد الجاموس، ویملؤون القربة مقابل دراھم للسقایین".
دحض الشائعات
ويتناول الباحث في دراسته ما ذكره الرحالة حول الميقات ودحضهم بعض الشائعات التي تقال حول الرحلة إليه، وينقل في هذا الإطار ما قاله ابن بطوطة حول رحلة إحرام الحجاج المغاربة المرافقین للركب الشامي ممن عرجوا على ھذه الجھة قبل ولوجھم أرض الحجاز.
ويقول ابن بطوطة: "رحلنا من المدینة، وأحرمنا بمسجد ذي الحلیفة، وبعدھا بخمسة أیام وھو آخر حرم "المدینة" وبالقرب منه "وادي العقیق" و"شعب علي" وبعده "الروحاء" و"الصفراء"، ونزلنا ببدر ومنھا إلى "أم القرى"، حیث الوادي المبارك وغایة المنى".
ويشير الباحث إلى بعض الشائعات التي كانت تحيط بهذه الرحلة، ومنها أن البعض سمع أصوات طبول تطرق عند بدر، وظهور ومیض نور على بعد أمیال كثیرة، وهو ما نفاه الحجاج الرحالة بالمعاینة العملیة لذلك.
ومن ذلك ما ذكره العياشي: "إن من الآیات الباقیة ما كنت أسمعه من الحجاج، أنھم إذا اجتازوا ذلك الموضع یسمعون كھیئة طبول، بما یروا أنه الإشارة الدائمة لانتصار أهل الإيمان في بدر، "وقد مررت ببدر سبع مرات، وأنا في كلھا ألقي البال لذلك، فلم أسمع شیئًا أتحققه".
ويقول الباحث تعليقًا على ذلك: "وھنا یتأكد لنا مدى فاعلیة الرحلة العلمیة في تثبیت الحقائق، ودحض الترھات، وعلیه ركزت أغلب الرحلات على وصف الطریق من المدینة المنورة إلى مكة المكرمة، بالتعریف بمسالكھا، وبالآبار الموجودة في طریقھا، محددین وضابطین بدقة مناسك الحج في مواقیتھا الزمانیة، ومواقعھا المكانیة، وفق ضوابط ومعالم ثابتة".
وصف الكعبة
وينتقل الباحث في دراسته بعد ذلك إلى وصف الكعبة في كتابات الرحالة الحجاج، ويقول عن ذلك إنها أكثر مادة معرفیة ضمنھا الحجاج المغاربة، خاصة الرحالة منھم في مصنفاتھم المختلفة، وفق ما شاھدوه أو سمعوا عنه.
ويقول الباحث إن وصف أبعاد الحرم المكي تباين من رحالة لآخر، حسب الإمكانات والظروف التي توفرت لكل واحد منھم.
ونقل عن الرحالة العیاشي وصفه للكعبة والذي جاء فيه: "مربعة الشكل، بھا نقص من جھة الركن الذي عن یمین الداخل إلیھا مقدار السلم بنحو 3 أذرع، فھو یتخذ مصعدًا إلى السطح، أرضه مفروشة بالمرمر الملون، مكسو الحیطان والسقف، مماثلة للكسوة الخارجیة من حیث الصنعة والكتابة، مع مخالفة لھا في اللون".
وأضاف: "لون الكسوة الخارجیة للكعبة سوداء كلھا، بینما جاءت الداخلیة بیضاء مختلطة بحمرة، مرصعة بمصابیح كبیرة معلقة، بعضھا من الذھب والآخر من البلار الأبیض الصافي المكتوب بلون أزوردي، له ثلاثة أعمدة من خشب مصطفة في وسطھا ما بین الیمین والشمال، وكل عمود منھا سُمر علیه ألواح في أسفله".
قبر النبي
وكان للمدينة المنورة نصيب في كتابات الرحالة الحجاج، ويقول الباحث إنهم نقلوا وصفا للمزارات المستحبة وفي مقدمتها المسجد النبوي، حيث قبر النبي وأصحابه.
وأشار الباحث في هذا الإطار إلى ما ذكره الشیخ العربي المعسكري صاحب الرحلة الموسومة بـ"الحقیقة والمجاز في الرحلة إلى الحجاز" عن زيارته للمسجد النبوي واستناده غداة وقوفه عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبیه أبي بكر وعمر رضي الله عنھما، على ما أورده ابن فرحون صاحب كتاب "الدیباج المذھب في معرفة أعیان علماء المذھب".
وكذا ابن الحاج صاحب كتاب "مدخل إلى الشرع الشریف" في ھذا المجال، مبتدأ بالسلام على النبي صلى الله علیه وسلم من غیر رفع الصوت، ثم على أبي بكر ثم على عمر، مقلدا ما أثر عن الإمام مالك في ھذا المقام، قائلًا: "السلام علیك أیھا النبي ورحمة الله تعالى وبركاته"، ومستدلًا بقوله في ھذا الشأن: "لا أرى أن یقف عند قبره يدعو ولكن یسلم ویمضي".
ويخلص الباحث في النهاية إلى القول إن تلك الكتابات للرحالة الحجاج ظلت باقية تفيد كل من نحى نحوھم في خوض رحلة العمر، التي كانت تھفو إلیھا الأنفس ولا تزال، إلى أن یرث الله الأرض ومن علیھا، فكانت الفائدة الأكبر من سفریاتھم نحو البقاع المقدسة أو غیرھا، ھي نقل الأفكار والمعارف التي كانوا یحصلون علیھا في أسفارھم.
aXA6IDMuMTQzLjIzNy4xNDAg جزيرة ام اند امز