شعار المملكة صار "تنويع مصادر الدخل" من خلال صناعات استخراجية جديدة وصناعات تحويلية متعددة ومشروعات عملاقة.
انتبهوا هذا موضوع شائك؛ ومع ذلك استقيموا واربطوا الأحزمة، فوسط غمام كثير، ودخان كثيف، وضجيج وضوضاء غالب، فإن أموراً حيوية تجرى في المملكة العربية السعودية تستحق رصداً وتقديراً. الأزمة الإيرانية بشقيها الأمريكي حيث الاتفاق النووي، والعربي حيث الاتجاه الإيراني نحو التوسع والهيمنة، مستحكمة وتزداد استحكاماً، والحرب الأهلية اليمنية تتعقد وتزاد تعقيداً، والأوضاع في الشرق الأوسط جميعه تتشابك وتزداد تشابكاً؛ ووسط ذلك كله فإن الإصلاح في المملكة يجرى على قدم وساق، ومهما جرى من عدوان على النفط السعودي فإن المملكة لا تزال مصممة على طرح شراكة "أرامكو" في موعده الموعود في السوق المالي.
شعار المملكة صار "تنويع مصادر الدخل" من خلال صناعات استخراجية جديدة، وصناعات تحويلية متعددة، ومشروعات عملاقة مثل مشروع مدينة "نيوم"، ومدن جديدة تغلب الحضر على البادية. والخاتمة هنا تقوم على المؤسسية التي تبدأ بالمحليات وإدارة الأقاليم التنموية حتى قمة الدولة التي تقوم كلها على مشاركة المواطنين من ناحية والمساواة بين المواطنين جميعاً.
الخطوة باتت نوعاً من الرمز على مرحلة جديدة في التاريخ السعودي كانت الأولى منها قائمة على استقلال الدولة ضمن الحدود الراهنة في عام ١٩٣٢ كواحدة من نتائج الحرب العالمية الأولى من ناحية والنهضة التي قام بها المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود، الذي وحد المملكة، من ناحية أخرى؛ وجعلها مركزاً للعالم الإسلامي من ناحية ثالثة. كان التوحيد عملية سياسية في الأساس؛ حيث يكون استخدام القوة العسكرية امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، وكان الحرمان الشريفان في مكة والمدينة هما جوهر الدولة التي علمها شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والسيف رمز للإرادة والقدرة في ثوب أخضر.
هذا الجوهر قدّم للدولة السعودية طبيعة سعودية خاصة، محافظة في جوهرها تعاملت مع "الحداثة" بحرص وتقييد يجعلها مسجونة في داخل التطور التكنولوجي الذي لم يسلم حتى من موجات مقاومة متطرفة زادت تطرفاً مع التطورات الجارية داخل المملكة وخارجها بالثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩، وفي العام نفسه الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكذلك حادث الاقتحام للمسجد الحرام في مكة. مظاهر ذلك بدت في الخارج بتأسيس مؤتمر الدول الإسلامية الذي بات منظمة للتعاون الإسلامي مقرها مدينة جدة السعودية، وفي الداخل جرى الاتباع الحرفي للنص الإسلامي في صيغة سلفية مقيدة لحرية المرأة وممارساتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
كان ذلك هو التأسيس الأول للمملكة منذ عام ١٩٣٢ الذي جعل للدولة السعودية مكانتها الخاصة في العالم الإسلامي بوضعها المتميز كحاضنة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، وأضيف إلى ذلك مكانة هائلة باعتبارها تتصدر قائمة الدول المنتجة للنفط في العالم. كان النفط قد أصبح المحرك لماكينة الحرب منذ الحرب العالمية الثانية؛ وأكثر من ذلك المحرك لماكينة السلام عندما قام عليه الإنعاش الأوروبي والياباني بعد الحرب، والتقدم الإنساني في عمومه في العقود التالية.
ودون الدخول في كثير من التفاصيل، باتت المملكة متصدرة للساحة الدولية بمكانتها في منظمتي "الأوبك" و"أوابك" ومجموعة العشرين، والدول المقدمة للأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ وبالطبع في الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. التأسيس الأول للمملكة منحها مكانة خاصة داخل الدول الإسلامية، والعالم العربي، وجماعة دول الشرق الأوسط، والعالم. ولعل ذلك وضع الأسس الجديدة للتأسيس الثاني للمملكة، ليس من حيث صفتها القانونية كدولة، ولا من حيث نفوذها الدولي والإقليمي الذي استمر ينهل من أصولها الأولى؛ وإنما من تبنيها "الحداثة".
ومن الصعب تحديد الموعد الذي تصدرت فيه هذه العملية التاريخية المشهد السعودي، فقد كانت هناك موجات من التحديث ظهرت في انتشار التعليم بالمملكة، وإرسال البعثات التعليمية في المملكة إلى الخارج، والتوسع في الشبكات للطرق والتعليم والصحة، وإدخال أدوات الإعلام المختلفة خاصة في عهود الملك فيصل وخلفائه. ولعل عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله قدّم إرهاصات على قدوم التغيير من خلال جامعات للتقدم التكنولوجي يحضرها الرجال والنساء معاً.
ولكن الثورة الحداثية الكبرى جرت في عام ٢٠١٥ عندما تولى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ولاية الدولة، وتولى الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد. أصبحت الحداثة كمنهج، والتحديث كعملية سياسية ثورة كاملة لا تزال جارية، ومن الصعب تحديد آثارها المستقبلية بينما هي متحركة بسرعات كبيرة.
الحداثة والتحديث أخذا بالمملكة ليس فقط إلى ضفاف القرن العشرين، وإنما أيضاً إلى القرن الواحد والعشرين وما وراءه؛ وهي هدف وعملية جرت في العالم كله مع القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وبشكل ما فإنها لا تزال جارية في القرن الحالي في دول عديدة. وفي الحالتين كان للتكنولوجيا باع كبير، فهي التي خلقت السوق الذي ربط الأفراد والمجتمعات، وهي التي نشرت التعليم والوعي، وهي التي أمدت الإنسان في عمومه بأدوات التعامل مع المرض والجهل، وخلقت الأساس لما بات معروفاً بالدولة القومية، أو وفقاً للتعبيرات العربية بالدولة الوطنية. هذه العملية لها أركانها التي تتمثل أولاً بالهوية، وثانياً بالاختراق، وثالثاً بالتعبئة، ورابعاً بالمؤسسية.
الأبعاد الأربعة جرت في المملكة على قدم وساق خلال السنوات الأربع الماضية. هوية الدولة الحداثية تقوم على المواطنة المستمدة من المساواة ما بين مواطنين أمام القانون بغض النظر عن الجنس أو العقيدة أو اللون أو الطائفة، والدين لا يستبعد من الهوية بل هو ركن أساسي فيها بما يمده من أخلاقيات ونزعات التسامح والقبول.
الدين بهذا المعنى هو جزء أساسي من إنسانية الهوية ونزوعها للاعتماد والتفاعل مع بقية البشر، وفي هذه الحالة لا تقوم بينهم حواجز وإنما تنشأ بينهم جسور. الهوية السعودية الحداثية تستوعب النساء، وجميع السعوديين سواء كانوا سنة أو شيعة، وفي دولة تعدادها يتجاوز ٣٢ مليون نسمة، وتقل فيها الأمية إلى أقل من ٥.٧٪ فإنها تصبح قادرة على ربط ما هو منفصل بالمسافة وما هو مشترك بين البشر من جذور تاريخية وتجربة إنسانية تقوم على التفاؤل البشري في التعامل مع المستقبل والارتباط بماضٍ لا يخص فئة أو جماعة.
وما جرى خلال السنوات الخمس الماضية من اكتشافات أثرية في أركان المملكة كلها لافت للنظر، وإعدادها ليس فقط لكي تكون مزارات سياحية وإنما لكي تكون تراثاً لكل المواطنين يعود تاريخ المملكة ليس فقط للعصور الإسلامية المجيدة، بل أيضاً إلى عصور أقدم تشهد على وجود الحضارة في عهود موغلة في التاريخ.
الاختراق للمملكة جاء باستواء الاهتمام بالمملكة كلها بجميع أقاليمها، وعملياً مد التنمية من شرق المملكة حيث الخليج العربي ومنابع النفط ومصدر التهديد الإيراني إلى غرب المملكة؛ حيث لا يقتصر الاهتمام على المدن المقدسة مكة والمدينة والميناء البحري في جدة، وإنما إلى إقليم البحر الأحمر كله الذي صار بعد تقسيم الحدود البحرية مع مصر يشكل امتداداً للمملكة بمساحات كبيرة، وجزراً متعددة المزايا الجغرافية والسياحية.
والتعبئة هنا تجلت تماماً بما بات معروفاً برؤية المملكة ٢٠٣٠ التي ديدنها الخروج من الصبغة النفطية للمملكة إلى صبغة التنمية الشاملة التي تسعى للحاق بركب الدول المتقدمة في تعليمها وصناعتها وتكنولوجيتها. شعار المملكة صار "تنويع مصادر الدخل" من خلال صناعات استخراجية جديدة، وصناعات تحويلية متعددة، ومشروعات عملاقة مثل مشروع مدينة "نيوم"، ومدن جديدة تغلب الحضر على البادية. والخاتمة هنا تقوم على المؤسسية التي تبدأ بالمحليات وإدارة الأقاليم التنموية حتى قمة الدولة التي تقوم كلها على مشاركة المواطنين من ناحية والمساواة بين المواطنين جميعاً من ناحية أخرى.
هذه التطورات مجتمعة تعيد تأسيس المملكة من جديد ليس في مفارقة مع ماضيها، وإنما في عملية تحديثية عميقة تضيف لها وتأخذها بعيداً في مسار التقدم الإنساني. ولكن مثل ذلك الذي يخلق طفرة إصلاحية سعودية بقدر ما يحققه من إنجازات وعلو في مراتب التقدم الإنساني، فإنه يفرز تحديات كبيرة تسعى في مجموعها إلى جذب المملكة بعيداً عن مسيرتها الإصلاحية والتقدمية، ولكن حديث التحديات ربما يكون مساراً حديثاً آخر!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة