أمريكا والردع النووي.. «الثالوث التقليدي» لم يعد ضروريا

أزمة برنامج الصاروخ النووي الأمريكي الجديد "سينتينيل" تتجاوز مسألة التكلفة الباهظة لبناء صوامع الإطلاق.
وبحسب موقع مجلة «ريسبونسبول ستيت كرافت»، يطرح ذلك سؤالًا أعمق: هل ما زالت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات القائمة على الأرض ضرورية في عصر الردع النووي المتطور؟
نسخة متحركة
خلال الأسبوع الماضي، نشر ثلاثة محللين من معاهد هدسون والتراث والمشاريع الأمريكية مقالة مشتركة على موقع بريكنغ ديفنس، دعوا فيها إلى تحويل برنامج "سينتينيل" من صواريخ ثابتة داخل صوامع إلى نسخة متحركة تُحمّل على شاحنات ثقيلة.
ويرى الخبراء أن ذلك سيكون خيارًا أقل تكلفة وأكثر مرونة. غير أن مقترحهم لا يبدو سوى محاولة يائسة للانتقال من مشروع مكلف للغاية إلى آخر لا يقل عبئًا على الميزانية، بل وربما أكثر تعقيدًا.
وسبق أن كشفت وزارة الحرب (الدفاع سابقا) في عام 2024، عن تجاوز في تكاليف البرنامج بنسبة 37 بالمائة، ما أجبرها على إخطار الكونغرس ودراسة الأسباب الجذرية للخلل، قبل أن يقرر الاستمرار بالمشروع في إطار خطة جديدة "مُعادة الهيكلة".
إلا أن تلك الخطة لم تقلل التكاليف، بل رفعتها إلى 81 بالمائة فوق الميزانية الأصلية.
افتراض خاطئ
كان أحد الأسباب الرئيسية وراء تضخم الإنفاق هو افتراض خاطئ بأن الصوامع القديمة المخصصة لصواريخ "مينتمان 3" يمكن تهيئتها لاستيعاب الجيل الجديد من الصواريخ.
وبعد اكتشاف صعوبة ذلك، اضطرت وزارة الدفاع إلى البدء في بناء صوامع جديدة بالكامل، ما فاقم التكلفة بشكل هائل.
من هذا المنطلق، يجادل المحللون الثلاثة — الذين أُطلق عليهم مجازًا "ثالوث الصواريخ - بأن كلفة بناء الصوامع الجديدة باتت مرتفعة لدرجة تجعل من الخيار المتحرك على الشاحنات بديلًا اقتصاديًا أكثر جدوى.
لكن هذا الطرح يستند إلى افتراضين هشّين: الأول، أن نقل "سينتينيل" عبر الطرق سيكلف أقل من بناء الصوامع، وهو ادعاء غير مدعوم بأي بيانات أو دراسة عملية؛ والثاني، أن الولايات المتحدة ما زالت بحاجة إلى صواريخ عابرة للقارات لضمان الردع النووي - وهي فكرة عفا عليها الزمن.
فعلى صعيد الردع، لم تعد هذه الصواريخ تشكّل عنصرًا أساسيًا في الحفاظ على التوازن النووي.
فوفقًا لتقرير صادر عن مركز تاكسبايرز فور كومان سنس، تبلغ القوة التدميرية الإجمالية للرؤوس النووية المحمولة على قاذفات بي-52 نحو 30 ميغاطن، أي ما يعادل 1200 ضعف قنبلة ناغازاكي عام 1945.
أما أسطول الغواصات النووية الأمريكية فيحمل رؤوسًا بقوة إجمالية تصل إلى 200 ميغاطن - ما يعادل 8000 ضعف قنبلة ناغازاكي، وفي ظل هذه القدرات المذهلة، يصبح وجود 400 صاروخ باليستي أرضي مجرد ترف غير مبرر.
ميزة تتلاشى
كانت الصواريخ الأرضية في الماضي توفر ميزة تفوق على الأسلحة المحمولة جوًا وبحرًا، لكنّ التطور الهائل في مدى ودقة الصواريخ والقنابل الحديثة جعل هذه الميزة تتلاشى.
واليوم، لم تعد الصواريخ الباليستية الأرضية تستحق مكانها في الصوامع — ولا حتى على الشاحنات — بل في المتاحف العسكرية التي تروي تاريخ الحرب الباردة.
ولعل هذا الموقف ليس جديدًا أو متطرفًا؛ فقد صرّح الجنرال جورج لي بتلر، القائد السابق للقيادة الاستراتيجية الأمريكية، في مقابلة عام 2015 قائلًا: "كنت سأزيل الصواريخ الأرضية من ترسانتنا منذ زمن بعيد".
لكن رغم هذه القناعة، يواصل اللوبي الصناعي والسياسي الدفاع عن مشروع "سينتينيل" بكل قوة، فالشركات المتعاقدة التي تعمل في تصنيع الصواريخ، إلى جانب المشرعين الذين تقع مصانعها في ولاياتهم، يمتلكون مصلحة مباشرة في استمرار البرنامج.
وتشير دراسة إلى أن شركات المقاولات المرتبطة ببرامج الصواريخ الباليستية قدّمت تبرعات بقيمة 87 مليون دولار لأعضاء الكونغرس خلال أربع دورات انتخابية، فيما أنفقت 11 شركة منها أكثر من 226 مليون دولار على أنشطة الضغط السياسي في الفترة ذاتها.
وفي ضوء ذلك، يبدو واضحًا أن الإصرار على الإبقاء على الصواريخ الباليستية ليس مدفوعًا باعتبارات أمنية أو استراتيجية، بل بمصالح اقتصادية وسياسية.
وخلصت المجلة إلى أنه مع انطلاق برامج تحديث الترسانة النووية الأمريكية، حان الوقت لتحديث الفكر الاستراتيجي نفسه، فالردع النووي لم يعد بحاجة إلى "ثالوث" تقليدي من الصواريخ والقاذفات والغواصات.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjUg جزيرة ام اند امز