إرث قديم ولحظة حاسمة.. حكاية إسقاط أول مقاتلة شبحية في العالم

في مساء 27 مارس/آذار 1999، صدم خبر إسقاط مقاتلة أمريكية شبحية من طراز "إف-117 نايت هوك"، فوق الأجواء الصربية، الأوساط العسكرية.
لم تكن هذه مجرد طائرة مقاتلة عادية، بل كانت أول مقاتلة في العالم تعتمد بشكل كامل على تكنولوجيا التخفي، وكانت رمزًا للتفوق العسكري الأمريكي منذ بداية الثمانينيات، وفقا لموقع "أفييشن غيكز".
الطائرة التي حملت الاسم الرمزي "فيغا-31" قادها الطيار الأمريكي دل زيلكو، وأُسقطت بواسطة صواريخ أرض-جو أطلقتها وحدة دفاع جوي صربية يقودها العقيد زولتان داني، لتصبح أول حالة مؤكدة يتم فيها إسقاط طائرة شبحية في التاريخ الحديث.
خلفية تقنية
دخلت طائرة "إف-117" الخدمة رسميًا عام 1983 بعد سنوات من التطوير السري، وصُممت بزوايا حادة ومواد ماصة للموجات الكهرومغناطيسية، بحيث يصعب على الرادارات التقليدية رصدها.
وقد اكتسبت سمعة أسطورية خلال حرب الخليج عام 1991 عندما نفذت أكثر من 1300 طلعة قتالية في عمق الأراضي العراقية، واستهدفت مواقع استراتيجية عالية القيمة في بغداد، دون خسارة أي طائرة واحدة.
وعززت هذه النجاحات الاعتقاد بأنها شبه منيعة أمام الدفاعات الجوية.
في المقابل، كانت صربيا تمتلك شبكة دفاعية تعود بمعظمها إلى الحقبة السوفياتية، أبرزها منظومة "إس-125 نيفا/بيتشورا" المعروفة في الغرب باسم "إس إيه-3 غوا”.
ورغم دخول هذه المنظومة الخدمة في الستينيات، فقد أجرت القوات الصربية عليها تعديلات ميدانية، ودرّبت طواقمها على أسلوب تشغيل مرن يتيح نصب الكمائن وتحريك البطاريات بسرعة كبيرة لتفادي الضربات المضادة.
تراكم الأخطاء: كيف كُشف سر التخفي؟
يرى خبراء الطيران، أن إسقاط الطائرة لم يكن مجرد ضربة حظ، بل نتيجة تراكم عدة عوامل بشرية وتقنية.
أول هذه العوامل كان اعتماد الطيارين الأمريكيين على مسارات طيران متكررة خلال الهجمات، وهو ما سهّل على الصرب التنبؤ بخط سير الطائرة.
وخلافا لما جرى في حرب الخليج، حيث كانت المسارات تتبدل باستمرار، تكررت بعض الرحلات في سماء البلقان بالمسار نفسه تقريبًا، ما أتاح للقوات الصربية نصب كمين محكم.
العامل الثاني تمثل في غياب الدعم الإلكتروني. فعادة ما تُرافق طلعات إف-117 طائرات حرب إلكترونية مثل "إي-6 بي برولر"، وظيفتها التشويش على الرادارات وتعطيل أنظمة الدفاع الجوي.
لكن في تلك الليلة بالتحديد، حالت الظروف الجوية دون مشاركة هذه الطائرات، ما جعل المقاتلة الشبحية أقل حماية وأكثر عرضة للرصد.
العامل الثالث كان استخدام الصرب لرادارات بترددات منخفضة من طراز بي-18، قادرة على التقاط إشارات ضعيفة حتى من الطائرات المصممة للتخفي.
ورغم أن المدى الفعلي كان محدودًا، فقد أمكن رصد الطائرة على بعد نحو 15 ميلاً فقط، وهو مسافة قصيرة لكنها كافية لتأكيد وجودها.
اللحظة الحاسمة
ما جعل العملية ممكنة بشكل أكبر هو ما يُعرف باللحظة الحاسمة، عندما همّ الطيار الأمريكي بفتح منطقة القنابل لإطلاق حمولته، انكشفت أسطح داخلية عاكسة للرادار لم تُصمم لتكون متخفية.
عند هذه اللحظة تحديدًا، تمكن رادار التوجيه المرتبط بمنظومة إس-125 من تثبيت الهدف، بعد عدة محاولات فاشلة.
الصرب كانوا قد درّبوا طواقمهم على تشغيل الرادارات لفترات وجيزة جدًا لا تتجاوز عشرين ثانية في كل مرة، لتفادي استهدافها بصواريخ مضادة للإشعاع.
هذا الاستخدام الاحترازي مكّنهم من البقاء نشطين دون أن يتم رصد مواقعهم بشكل سريع. وبمجرد حصولهم على إشارة رادارية، أطلقوا صاروخين.
الأول مر بجوار الطائرة دون أن ينفجر، بينما أصاب الثاني الهدف إصابة شبه مباشرة، ليتعرض هيكل المقاتلة لأضرار بالغة أجبر الطيار على القفز بمظلته والنجاة بأعجوبة.
الدروس والنتائج
مثّل إسقاط إف-117 رسالة مدوّية مفادها أن التكنولوجيا الأكثر تقدمًا ليست عصية على الهزيمة.
صحيح أن الطائرة كانت إنجازًا هندسيًا فريدًا، لكن اعتمادها على التخفي وحده جعلها عرضة للانكشاف أمام رادارات منخفضة التردد وتكتيكات دفاعية مرنة.
وأثبتت هذه الحادثة أن العوامل البشرية، مثل التكرار في المسارات أو غياب الحماية الإلكترونية، يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في قلب موازين القوة.
على الصعيد السياسي والعسكري، رفعت الحادثة من معنويات الصرب الذين كانوا يواجهون حملة جوية ضخمة من قوات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وأثارت قلقًا في واشنطن حيث بدا أن خصوم الولايات المتحدة قادرون على تهديد رموز قوتها الجوية.
أما في عالم الطيران العسكري، فقد أصبحت القصة مثالاً كلاسيكيًا يُدرَّس حول محدودية تقنيات التخفي، وضرورة الدمج بين التكنولوجيا المتطورة والانضباط العملياتي والاستراتيجية المتغيرة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMzcg جزيرة ام اند امز