في تقدير البابا الطيّب أنّ الإنسانيّةَ برمتها عائلةٌ بشريّة واحدة، خالقُها سبحانه وتعالى واحدٌ، تعيش في بيت مشترك، هذا الكوكب.
لعلّ المتابع المحقّق والمدقِّق لأحاديث وتصريحات البابا فرنسيس الأيّام القليلة الماضية يكاد يجزم بأنّ هناك دعوة لثورة تنطلق من وراء جدران الفاتيكان، غير أنّها ليست ثورة مدمِّرة للحجر أو مقلقة للبشر، بل ثورة من أجل إعمار البشريّة وبناء الجسور وهدم الجدران؛ ثورة هدفها الرئيس إعادة الإنسان إلى إنسانيّته، والانتصار سويّا على قوى الشرّ الكامنة في الطبيعة البشريّة، باعتبار الأخ أخا ورفيقا في درب الحياة وليس الجحيم كما قال الفيلسوف الفرنسيّ الوجوديّ جان بول سارتر في ستينيّات القرن المنصرم.
نهار الأربعاء الماضي، وفي لقائه العامّ مع الجماهير، كان فرنسيس يؤكّد على أنّ التضامن هو السبيل للذهاب نحو عالم ما بعد الوباء، ومبيِّنا كيف أنّ هذا الفيروس الذي تسبَّبَ في الآلام والمِحَن للدول والأفراد وللخليقة برُمّتها، قد أفرز قدرات الخير وأبرَزَ مواضع الشرّ في الخليقة برُمّتها.
في تقدير البابا الطيّب أنّ الإنسانيّةَ برمتها عائلةٌ بشريّة واحدة، خالقُها سبحانه وتعالى واحدٌ، تعيش في بيت مشترك، هذا الكوكب الذي وُجِدنا جميعا على أرضه، وطُلِبَ منا إعمارُه بالذرّيّة الصالحة وبالنماء والكثرة الخلّاقة بشرا وحجرا.
في كلمته، وضعنا فرنسيس أمام مقاربة مثيرة للتأمُّل في زمن "القرية الكونيّة"، تلك التي تحدّث بها عالم الاجتماع الكنديّ "مارشال ماكلوهان" في ستّينيّات القرن الماضي، ذلك أنّه كان من المفروض لتلك القرية أن تدعم التواصل الإنسانيّ، وتُحوِّل الترابط إلى تضامن، لكنّ ما نراه الآن هو حالة من الأنانيّة الفرديّة والقوميّة، أنانيّة جماعة السلطة، وقَدَّم لنا فرنسيس مصطلحا جديدا "الصلابة الأيديولوجيّة، تغذّي هيكليّات الخطيئة".
ليس خافيا على أحد أنّنا أضحينا في زمن "عولمة اللامبالاة"، وقد كان فرنسيس نفسُه، بحكم حضوره في قلب روما، شاهدا على مرحلة الآذان الصّمّاء لدول أوروبّا في بداية أزمة تفشّي وباء كوفيد- 19، والتوقف عن استنقاذ الملهوفين من المرضى، الأمر الذي ترك جرحا غائرا في نفوس الشعب الإيطاليّ، وهو عينُه ما عانت منه شعوب دول أوروبيّة أخرى. وقد شاهد العالم برمّته الرئيس الصربيّ، والدموع تترقرق في عينَيْه لاجئا إلى الصين بعد أن صدّته ورَدّتْه أوروبّا الموحَّدة.
هل فقدتْ البشريّة بَوْصَلة التضامن الإنسانيّ؟
من الواضح أن ذلك كذلك، ولهذا يرى فرنسيس أنّ قيمة التضامن قد تآكلت قليلا، وأحيانا يُساءُ أيضا تفسيرُها، غير أنّها تكتسب عنده معانيَ ومبانيَ أكثر وأبعد من مجرّد قليل من أعمال السخاء المتفرِّقة.
ثورة التضامن التي يدعو إليها فرنسيس، إن جاز التعبير، تتطلّب خلق ذهنيّة جديدة تفكّر من منظور الجماعة، في أولويّة حياة للجميع فيما يتعلّق بالاستيلاء على خيرات الأرض من قبل البعض، وبالتالي فهي ليست مجرّد مسألة مساعدة الآخرين، وإنّما هي أمر جوهريّ يتعلّق بالعدالة، فالاعتماد على بعضنا البعض وحَمْل الثمار يحتاج إلى جذور قويّة في الإنسان وفي الطبيعة التي خلقها الله، ويحتاج إلى احترام الوجوه والأرض.
يَعِنّ لنا أن نتساءل: "هل من تضامُن بدون عدالة اجتماعيّة؟"
لا يبدو الكوكب الأزرق ومَن عليه سائرا في درب من الهدى، بل يخطو مضطربا صباح مساء كلّ يوم، ويتعمّق الانقسام بين أغنياء تطال ثرواتُهم عنانَ السماء، وفقراء باتوا يمثّلون قنابل موقوته قابلة وقادمة للانفجار في وجه الجميع، الأمر الذي ينزع السلام من العالم مرّة وإلى ما شاء الله.
أثبتت الأشهر القليلة الفائتة صِحّة ما أشار إليه فرنسيس، فخلال أوقات الحجر المنزليّ، تعرّضتْ اقتصادات الأفراد والمواطنين بدرجة بالغة لكثير من التدهور، فيما أدّى المشهد إلى إفلاس عشرات الآلاف من أصحاب المصانع والمتاجر، وتشريد ملايين من العمال المعتمدين على تقديم الجهد البدنيّ لإيجاد لقمة العيش.
وسط هذا كلّه تنامت ثروات البعض، لا سيّما الذين استفادوا من هذا الحجر، ونقصد هنا المتعاملين عبر الذكاء الاصطناعيّ، وأصحاب شركات التواصل الاجتماعيّ، والبيع والشراء عبر الشبكة العنكبوتيّة.
جميع هؤلاء قفزتْ أرباحُهم إلى أرقام فلكيّة، فأحدهم تجاوزت ثروته المئتَيْ مليار دولار، على سبيل المثال.
حتما نحن هنا لسنا في سبيل المصادرة على عمليّات البيع والشراء الحلال، لكنّ ما يثيره فرنسيس في النفوس هو كيفيّة تقاسُم خيرات الأرض هذه، والتساؤل: كم يحتاج صاحب المليارات هذا في يومه من مستلزمات تبقيه في حياة كريمة ومرفّهة. ثمّ، وهذا هو الأهم، ما الذي يمكن أن تقدّمه يداه ليضحي رمزا إنسانيّا خلّاقا في طريق الرأسماليّة المتوحِّشة هذه؟
في لقائه الأخير، استحضر فرنسيس قصّة من زمن بعيد جدّا، زمن بناء برج بابل، حيث مضى قومٌ لبناء أعلى مكان على وجه الأرض أملا منهم في بلوغ السماء.
يقول البابا إنه عندما كان يسقط رجل ويموت، لم يكن أحدٌ يقول شيئا، ولكن عندما كانت تسقط لبنة من لبنات البناء، كان الجميع يتذمّرون... لماذا؟ لأنّ اللبنة كانت باهظة الثمن، وصُنْعها يستغرق عملا ووقتا كبيرَيْن، أي أنّ اللبنة كانت أكثر قيمة من حياة الإنسان... هل الماضي يُلقي بظلاله اليوم على الحاضر؟
أغلب الظنّ أنّ الأمر هو عينه، فحين ينخفض جزء من السوق الماليّة أو تُصاب قيمة السندات في البورصات الدوليّة بهبوط حادٍّ، يجزع ويفزع أصحاب رؤوس الأموال شرقا وغربا، ويعمّ الخبر وينتشر بسرعة البرق وكالات الأنباء، ووسائط التواصل الاجتماعيّ، فيما يسقط آلاف الأشخاص بسبب الجوع كلَّ يوم، وما مِنْ أحد يأتي على سيرتهم المؤلمة أو مسيرتهم المضنية.
يبحث العالم الآن بسرعة وجهد كبيرَيْن عن مصل لمواجهة وباء كورونا، فيما فرنسيس يُحدِّثنا عن مصل التضامن الذي يخلق أجساما مضادّة للذاتيّة والأنانيّة، وهو مصل كفيل بانتشال الخليقة برُمّتها من أزماتها في الربع ساعة الأخيرة إن جاز التعبير، لا سيّما قبل الانفجار الإيكولوجيّ القادم لا محالة.
أجسام التضامن المضادّة فيها الشفاء الذي لا يغادر سقما من أمراضنا الاجتماعيّة والشخصيّة، تضامن يقوده الإيمان، ويسمح لنا بأن نترجم محبّة الخالق جلّ وعلا لخليقته في ثقافتنا المعولمة على دروب النور، لا مسالك الظلام، ليس من خلال بناء أبراج أو جدران تقسم، ومن ثمّ تنهار، ولكن عن طريق نسج الجماعات، ودعم عمليّات نموّ بشريّة وثابتة.
ثورة التضامن التي يدعو لها البابا الفقير، قادرةٌ على إعطاء الثبات والدعم المعنويّ لهذه الساعات التي يبدو فيها أنّ كلّ شيء قد انهار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة