العلاقات الصومالية الكينية.. تقارب حذر
ثمة معطيات تؤشر على قرب حل النزاع الحدودي بين كينيا والصومال منذ توتر العلاقة بين البلدين عام 2009.
شهدت العلاقات الصومالية الكينية تطوراً بالغ الدلالة، عندما زار الرئيس الصومالي محمد عبدالله فرماجو كينيا في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ليضع بذلك حداً للتوتر الشديد الذي اعترى العلاقات بين الدولتين، منذ تبادل سحب السفراء فى فبراير/شباط 2019، حيث تم الاتفاق على ضرورة التسوية السلمية للنزاع على الحدود البحرية، واستئناف التمثيل الدبلوماسي، وتطبيع العلاقات، والتعاون في مكافحة الإرهاب، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة بشأن دوافع التقارب بين الطرفين، وتوقيته، ونتائجه المحتملة.
كان التوتر قد خيم على العلاقات بين الدولتين منذ عام 2009، إثر مذكرة التفاهم التي تم توقيعها في نيروبي، ورفضها البرلمان الصومالي، بشأن تمديد الجرف القاري الكيني، وتصاعد النزاع بشأن الحدود البحرية، وكذا بفعل الهجمات التي شنتها حركة الشباب المجاهدين الصومالية ضد كينيا، والتي أدت لتدخلها عسكرياً في الصومال عام 2011، في إطار عملية "حماية الأمة"، التي واجهت معارضة شعبية بين الصوماليين.
تجددت الخلافات عام 2012، عندما منحت السلطات الكينية بعض الشركات الأجنبية امتيازات للتنقيب عن النفط والغاز بالمنطقة المتنازع عليها، وهو ما أثار حفيظة الصومال، ودفعها للشكوى أمام محكمة العدل الدولية عام 2015. وقد انعكس ذلك سلبًا على علاقات البلدين.
وبلغ الخلاف ذروته في فبراير/شباط 2019، عندما عقد المسؤولون الصوماليون مؤتمراً في لندن، تم خلاله منح شركة إسبيكترام البريطانية امتيازاً للتنقيب عن الثروات بالمنطقة محل النزاع، وهو ما رفضته نيروبي، واستدعت بسببه سفيرها بالصومال، وطالبت سفير الصومال لديها بمغادرة البلاد. وهددت بسحب قواتها العاملة ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي بالصومال (أميصوم). واتخذت بعض الإجراءات للتضييق على الصوماليين، أهمها تفتيش الطائرات القادمة من مقديشو في مطار وجير، قبل سفرها لنيروبي. ومنع الصوماليين من الحصول على التأشيرات بمطاراتها، حيث منعت المسؤولين الصوماليين من دخول كينيا للمشاركة في برنامج إدارة الصراع عبر الحدود، الذي يرعاه الاتحاد الأوروبي. كما اتخذت إجراءات أمنية بمخيمات اللاجئين الصوماليين بها، واصفة إياها بأنها تحولت إلى بيئة حاضنة للإرهاب.
في المقابل، أكدت الصومال رفضها للتدخل الكيني في شؤونها الداخلية، معتبرة أنه يمثل إساءة لكرامة الصومال، ومساساً بسياسة حسن الجوار، كما احتجت على هبوط طائرة كينية بمدينة كيسمايو بولاية جوبالاند، دون تصريح رسمي، وسط شكوك بشأن روابط وثيقة بين كينيا ورئيس جوبا لاند، منذ تعاونهما في قتال حركة الشباب المجاهدين.
مساع دولية
وسعى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لرأب الصدع بين الطرفين، وذلك في إطار قمة ثلاثية جمعته بطرفي النزاع في مارس/آذار 2019، لكن المناخ لم يكن مواتياً آنذاك للوصول لاتفاق سياسي، خاصة في ظل وجود طرف ثالث يسهم في تعقيد النزاع، وهو الشركات العاملة في التنقيب عن مصادر الطاقة، والتي انحاز بعضها للصومال، فيما انحاز البعض الآخر لكينيا. وهنا يبرز دور شركة إيني الإيطالية، التي انحازت لكينيا، رافضة الاحتجاجات الصومالية على مزاولتها لأنشطة دون تصريح رسمي.
في غضون ذلك، سعت كينيا لعرقلة مسار القضية المنظورة أمام محكمة العدل الدولية. فدفعت بعدم اختصاص المحكمة بالنظر في القضية، وأن الصومال لم تستنفد الإجراءات السياسية البديلة لتسوية النزاع. وشككت في نزاهة المحكمة، بدعوى أن رئيسها هو القاضي الصومالي عبدالقوى أحمد يوسف، كما ضغطت على الصومال، عبر مجلس الأمن الدولي. فطالبته بتشديد العقوبات بالمناطق التي تسيطر عليها حركة الشباب، وفقاً للقرار 1267، الذي يفرض عقوبات على تنظيمي القاعدة وداعش، والحركات التابعة لهما، وهو ما أثار المخاوف الصومالية من إحجام المجتمع الدولي عن تقديم المساعدات للمدنيين بتلك المناطق.
وحاول الوسطاء الخارجيون إيجاد مخرج سياسي للنزاع، فحذرت مجموعة المراقبة التابعة للأمم المتحدة والمعنية بالصومال من تداعيات عقود التنقيب التي تمنحها حكومة فرماجو على فرص تسوية النزاع. وأعلنت الولايات المتحدة في 27 يونيو/حزيران 2019 دخولها كوسيط، حيث كشف السفير الأمريكى لدى كينيا عن زيارة سرية قام بها لمقديشو، لحثها على سحب القضية من محكمة العدل الدولية، وتسويتها عبر مائدة المفاوضات، كما أكدت بريطانيا أن الحوار السياسي هو السبيل الأنسب لتسوية الخلاف.
إقليمياً، تبنى الاتحاد الأفريقي مسار التسوية السياسية للنزاع، وهو ما أيدته منظمة إيجاد، وكذا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي يتولى حالياً رئاسة الاتحاد الأفريقي.
كان ذلك بمثابة رسالة لمحكمة العدل الدولية، تدعوها للتريث، وعدم المضي قدماً في نظر القضية، وإفساح المجال لمزيد من المفاوضات. وبالفعل أصدرت المحكمة قراراً بتأجيل النظر في القضية من سبتمبر 2019 إلى 4 نوفمبر من العام نفسه، قبل أن تؤجل الموعد لاحقاً حتى يونيو 2020. وهنا يبدو أن المحكمة لا تريد الإفصاح عما تكون قد تعرضت له من ضغوط، مع الاحتفاظ بدورها في نظر القضية، في حال فشل المسار السياسي.
وكانت أغلب المعطيات تبشر بحدوث تقارب بين الصومال وكينيا. وبالفعل عقدت قمة ثلاثية ضمت الرئيس الصومالي ونظيره الكيني أوهورو كينياتا، والرئيس المصري، وذلك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019 بنيويورك، ليسفر ذلك عن تشكيل لجنة ثنائية، للبدء الفوري في إجراءات إعادة الثقة، وتنقية الأجواء لتسوية النقاط الخلافية، كما اتفق وزير المالية الصومالي ونظيره الكيني على مواصلة التعاون التجاري والإغاثي بين الدولتين.
مهد ذلك لزيارة الرئيس الصومالي لكينيا، حيث أكد خلال لقائه بنظيره الكيني أن النزاع الحدودي لن يؤثر على العلاقات الثنائية بين الدولتين، الذين تربطهما مصالح مشتركة، وأنه سيتم تسوية النزاع بطريقة مقبولة من الطرفين، مثمناً دور كينيا في إطار بعثة أميصوم، واستضافتها للاجئين الصوماليين.
دوافع التقارب
يمكن القول بوجود دوافع عديدة لهذا التطور النوعى؛ إذ توجد 4 دوافع على الأقل بالنسبة للصومال هى: رغبة الرئيس فرماجو في مغازلة الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والاستفادة من مساعداتهما الاقتصادية والعسكرية المتوقعة، في حال تسوية النزاع الحدودي. بالإضافة للتفرغ للمعركة الانتخابية، وكسب أصوات الناخبين بجوبالاند، ذات العلاقة الوثيقة بكينيا، عوضاً عن الخسائر المحتملة بالولايات الأخرى، التي ساءت علاقاتها بالحكومة المركزية. فضلاً عن حرمان كينيا من استخدام ورقة اللاجئين في الضغط على مقديشو، حيث دأبت كينيا على التهديد بإعادة نحو 250 ألف لاجئ صومالي يقيمون بمعسكر داداب بكينيا، بالتزامن مع توتر العلاقات بين البلدين.
كما تسعى الصومال لقطع الطريق على كينيا، حتى لا تقوم بأي تغييرات فعلية بمنطقة النزاع، قد تؤثر بالسلب على حقوق الصومال، في ظل عدم جاهزية قواتها المسلحة، التي لن تتحمل مسؤولياتها الكاملة في الدفاع عن التراب الوطني إلا بحلول ديسمبر 2020، مع انسحاب بعثة أميصوم، وهو أمر تبدو أهميته بعد اختيار كينيا لرئاسة فريق الاتصال المعني بمكافحة القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية لمدة عامين، ابتداء من يناير 2020.
أما على الجانب الكيني، فإن التسوية السياسية للنزاع تتسق مع رؤيتها التي تفضل هذا النمط من التسويات، الذي يتسم بالمرونة، والاعتماد على توازن القوى بين الأطراف المعنية، وهو ما يصب في صالح كينيا. فيما تتسم التسوية القضائية بطول أمدها، واستنادها للأدلة القانونية من وثائق وخرائط وغيرهما، وهو ما قد يفضى لحكم ملزم لا يمكن الفكاك منه، يطالب كينيا بدفع تعويضات مالية للصومال، أو رفع يدها عن منطقة النزاع، بما يعني خسارتها لـ26% من منطقتها الاقتصادية البالغة زهاء 51 ألف كم2، ونحو 85% من الجرف القاري، وراء الـ200 ميل بحري، وحرمانها من الوصول للمياه الدولية من تلك الجهة.
كما تستهدف كينيا بالمسارعة للتسوية السياسية قطع الطريق أمام محاولات إثارة الملفات الحدودية الأخرى مع الصومال وتنزانيا. وفتح آفاق واسعة أمام الاستثمار الأجنبي، الذي لا يزال يتردد في العمل المكثف بالمنطقة، مع الحفاظ على تجارتها مع الصومال.
وختاماً، فإن جميع المؤشرات باتت تؤكد أن العلاقات الصومالية الكينية سوف تشهد انفراجة وشيكة في المستقبل المنظور، حيث يلقى ذلك ترحيباً واسع النطاق من جانب الأطراف المعنية. وهو ما يرجح اتخاذ سلسلة من الإجراءات المتبادلة لتحسين العلاقات، تمهيداً لإزالة العقبة الأكبر في هذا الطريق، وهي ترسيم الحدود البحرية، التي من المتوقع أن يتم تأجيلها لما بعد الانتخابات العامة بالصومال، في ظل ما ترتبط به من تعقيدات فنية، ومصالح إقليمية ودولية شديد التشابك.
** د. أيمن شبانة: مدير مركز البحوث الأفريقية - جامعة القاهرة
aXA6IDMuMTcuNzUuMTM4IA== جزيرة ام اند امز