النزاع الصومالي الكيني.. بين السياسة والقضاء الدولي "2-2"
3 سيناريوهات رئيسية يمكن أن تحدد المسار الذي ستتخذه تطورات الأزمة، مستقبلا بين الصومال وكينيا بسبب النزاع الحدودي بين البلدين
بدخول أزمة النزاع على الحدود البحرية بين الصومال وكينيا مرحلة جديدة بعد تحديد محكمة العدل الدولية موعدا لبدء جلسات الاستماع العلنية، وذلك في الفترة ما بين 9 إلى 13 سبتمبر/أيلول المقبل، خلال السنوات الخمس الماضية سيطر على مشهد النزاع الحدودي بين البلدين الكثير من التعقيد، خاصة مع إخفاق العديد من الوساطات الإقليمية.
وأمام هذا المشهد المعقد تظهر 3 محددات رئيسية يمكن أن تحدد المسار الذي ستتخذه تطورات الأزمة مستقبلاً، والتي تتمثل في:
أولاً: الانخراط المكثف للأطراف الخارجية كأصحاب المصالح
لا يمكن إغفال حقيقة أن المسبب الأساسي في تفجير الأزمة بين الصومال وكينيا في السنوات الأخيرة كان تدخل شركات النفط الأجنبية كأطراف ذات مصالح مباشرة، فما أثار الأزمة في منتصف عام 2012 كان قيام كينيا بتحديد 8 امتيازات بحرية تقع 7 منها في المنطقة المتنازع عليها مع الصومال، الأمر الذي تلاه إصدار الحكومة الكينية تصاريح للتنقيب في المنطقة المتنازع عليها من الإقليم البحري لعدد من الشركات الأجنبية، من أهمها شركتا توتال Total الفرنسية وإيني Eni الإيطالية.
وبينما قبلت توتال منطق التواصل مع حكومتي البلدين للحصول على حق التنقيب بالتوافق معهما، رفضت إيني الإيطالية المزاعم الصومالية مؤيدة الادعاءات الكينية بسيادتها على المنطقة المتنازع عليها.
وفي سبتمبر/أيلول عام 2013 التقى الرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمد في العاصمة الإيطالية روما باولو سكاروني المدير التنفيذي لشركة إيني الإيطالية العاملة في مجال التنقيب عن النفط، بغرض التوصل لتفاهم مشترك، بعد أن قامت الشركة ببدء أعمال التنقيب في المنطقة المتنازع عليها بين الصومال وكينيا، بموجب تصريح من الحكومة الكينية.
لكن الصومال آثرت التراجع بعد زيارة وزير النفط الصومالي آنذاك داود محمد عمر للعاصمة الكينية نيروبي في مايو/أيار عام 2014، وهي الزيارة التي أسفرت عن اتخاذ حكومة مقديشيو قراراً بالتراجع عن التصعيد مع عملاق النفط الإيطالي.
وعلى الرغم من تجنب الصومال المواجهة المباشرة مع الشركة الإيطالية لأسباب عديدة تجمع الأبعاد السياسية والاقتصادية، بدأت الصومال في تلك الفترة سياسة التصعيد ضد الحكومة الكينية، بأن لجأت في أغسطس من العام نفسه لمحكمة العدل الدولية.
وفي المقابل، تلقي كينيا باللائمة على النرويج وبريطانيا في دعم الموقف الصومالي الرافض للتسوية السياسية للنزاع الحدودي، مما دفع بعض المسؤولين الكينيين لتوجيه اتهام مباشر لهذه الدول بتقديم الدعم القانوني والمالي للصومال في قضيتها المنظورة أمام محكمة العدل الدولية.
فمن ناحية استضافة العاصمة البريطانية لندن المؤتمر الذي تسبب في تفجير الأزمة في فبراير/شباط 2019، والذي قامت الحكومة الصومالية خلاله بالتوسع في منح تصاريح التنقيب لشركات النفط الأجنبية في المنطقة المتنازع عليها.
ومن ناحية أخرى تبرز الكثير من التقارير الكينية الدور الذي لعبه رئيس الوزراء الصومالي حسن علي خيري في تصعيد الأزمة، وهو الذي يحمل الجنسية النرويجية، كما سبق له أن شغل منصب مدير شركة "صوما للنفط والغاز Soma Oil & Gas"، وهي شركة بريطانية خاصة تعمل للتنقيب في الصومال، وكانت أول شركة أجنبية توقع عقداً للتنقيب مع الحكومة الصومالية، ومن بين الشركاء الرئيسيين في الشركة رجل الأعمال وعضو مجلس الشيوخ البريطاني مايكل هوارد الرئيس السابق لحزب المحافظين.
كما تعد شركة النفط النرويجية DNO واحدة من أهم الشركات التي باشرت التنقيب بالفعل في المنطقة المتنازع عليها بالاتفاق مع الحكومة الصومالية.
هذا الانخراط المكثف لشركات النفط الأجنبية جاء على حساب فرص تسوية الصراع سياسياً، حيث اصطفت بعض الشركات مع الصومال والبعض الآخر مع كينيا، سعياً من كل منها للحصول على أكبر نصيب ممكن من الثروات النفطية في المنطقة المتنازع عليها.
ثانيا: الدوافع المتبادلة للتصعيد
بخلاف العقود الأولى التالية على استقلال الدول الأفريقية، لم تعد النزاعات الحدودية مصدراً رئيسياً للصراعات في أفريقيا، الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات حول دوافع الحكومتين الصومالية والكينية لتصعيد نزاعهما على الحدود البحرية، لدرجة القطيعة الدبلوماسية والتهديد الضمني باستخدام "كافة الوسائل" في الدفاع عن المقدرات الاقتصادية للدولة.
فبالنسبة للصومال، تعاني الحكومة الفيدرالية في مقديشيو من مشكلات كبيرة في علاقتها بالحكومات الإقليمية التي أصبحت أكثر قوة وتأثيراً بمرور الوقت، على النحو الذي قلص كثيراً من صلاحيات العاصمة في العديد من الملفات ذات الطبيعة السيادية، ومن بينها ملف الاستغلال الاقتصادي للثروات الطبيعية.
فإذا كان إقرار قانون البترول في 20 مايو/أيار 2019 قد مثل خطوة أساسية في دفع القطاع النفطي الصومالي للأمام، إلا أن إقرار هذا القانون لم يكن ليتم إلا بعد اجتماع الحكومة المركزية وحكومات الولايات في يونيو/حزيران عام 2018 بمدينة بيداوا، وهو الاجتماع الذي تعد مقرراته مرجعاً رئيسياً للقانون الصادر مؤخراً.
وقد تضمنت مقررات الاجتماع منح حكومات الولايات صلاحيات استثنائية في القطاع النفطي من خلال تمثيلها بـ6 أعضاء من أصل 8 في الهيئة الوطنية للبترول، فضلاً عن إنشاء شركة النفط الوطنية كمخرج من مخرجات مؤتمر تشارك فيه الحكومة المركزية وحكومات الولايات.
وقد عكست النسخة النهائية لقانون البترول الجديد التصاعد المطرد في قوة حكومات الولايات، فبينما نص قانون البترول القديم الذي تمت المصادقة عليه عام 2008 على مسؤولية الحكومة المركزية ووكالاتها عن حماية البترول وتوزيعه، نص القانون الجديد على أن البترول ملك جميع الصوماليين الذين تمثلهم الحكومة الاتحادية والولايات الأعضاء فيها.
وعلى هذا تسعى الحكومة المركزية في مقديشيو لضمان سيطرتها على موارد البلاد النفطية عبر المسارعة بفتح الباب أمام شركات النفط الأجنبية لتمثل لها حليفاً قوياً في مواجهة حكومات الولايات التي تمكنت من الحصول على مكاسب استثنائية في الفترة الأخيرة.
وعلى الجانب الكيني تعاني البلاد من أزمة سياسية شبه دائمة منذ انتخابات 2007، التي أعقبتها موجة حادة من العنف كادت أن تدخل البلاد في حرب أهلية.
ومنذ ذلك الحين لا تزال قضية الخلافة السياسية على منصب رئاسة الجمهورية مصدراً مستمراً للخلاف بين الجماعات الإثنية الرئيسية في البلاد، وقد ازدادت الأوضاع ارتباكاً في أعقاب الانتخابات التي أجريت في أغسطس/أب عام 2017، لتسفر عن فوز الرئيس أوهورو كينياتا بولاية ثانية قبل أن تبطل المحكمة العليا نتائج الانتخابات، التي أعيد عقدها في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، بعد انسحاب مرشح المعارضة الأبرز رايلا أدينجا، لتنتهي بفوز أوهورو كينياتا بولاية ثانية.
لكن السياق المأزوم للسياسة الكينية ألقى بظلاله على الحزب الحاكم، حيث تشهد الأوساط السياسية في الفترة الحالية توتراً غير مسبوق على خلفية الخلافات المتصاعدة بين رئيس الجمهورية أوهور كينياتا ونائبه ويليام روتو، والتي بلغت ذروتها حين تداولت بعض المصادر أن هناك تحقيقاً جارياً بشأن مؤامرة عدد من الوزراء لاغتيال روتو.
ومن المتوقع أن تستمر الأزمة السياسية في التصاعد لحين موعد عقد الانتخابات الجديدة، خاصة مع تأكيد الرئيس أوهورو كينياتا بعدم سعيه لتعديل الدستور، كي يتمكن من الفوز بولاية ثالثة، الأمر الذي جعل العديد من الساسة البارزين في حالة من التأهب لخلافة الرئيس، على هذه الخلفية يعد تصاعد النزاع الحدودي مع الصومال فرصة مهمة لتحقيق قدر من التوافق في الرأي العام الداخلي حول قضية تتعلق بالسيادة الوطنية وبالنزاع مع دولة جارة، طالما اتسمت العلاقة معها بالتوتر.
ثالثا: البيئة الإقليمية المعقدة
يأتي تصاعد النزاع الحدودي بين الصومال وكينيا في سياق إقليمي يمر بواحد من أكثر أوقاته صعوبة، حيث تمر دول شرق أفريقيا بأوضاع سياسية وأمنية استثنائية، وهو الوضع الذي يمتد من السودان شمالاً إلى موزمبيق جنوباً، ومن ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى منطقة البحيرات العظمى في عمق القارة.
فمن ناحية يشهد نشاط الجماعات الإرهابية تنامياً ملحوظاً، خاصة من خلال حركة الشباب المتمركزة في الصومال والتي كثيراً ما امتد نشاطها ليهدد دول الجوار وفي مقدمتها كينيا، وعلى المستوى السياسي تشهد المنطقة توترات غير مسبوقة لدى اللاعبين الإقليميين الكبار، وعلى رأسهم إثيوبيا والسودان خاصة منذ أبريل/نيسان 2019 من ظروف استثنائية بعد إزاحة نظام البشير.
ويفرض الوضع الإقليمي المعقد ضرورة إيجاد تسوية سريعة تضمن عدم تفاقم النزاع الحدودي الصومالي الكيني لتجنب تأثيره على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية المتدهورة أصلاً في الإقليم الذي أصبح واحداً من أكبر مناطق تركز المهجرين قسرياً في العالم.
وتأتي هذه المخاوف على خلفية الإجراءات المضادة التي اتخذتها الحكومة الكينية منذ تصاعد أزمتها مع الصومال، والتي كان الشعب الصومالي المتضرر الرئيسي منها، إذ تضمنت هذه الإجراءات غلق الحدود الكينية مع الصومال إلى أجل غير مسمى، ومنع سكان القرى الحدودية من ممارسة أي تعاملات تجارية عبر الحدود، وحظر أنشطة صيد الأسماك قبالة الحدود الصومالية، وتقييد حرية الطائرات المدنية التي تقلع من مقديشيو في استخدام الأجواء والمطارات الكينية.
وأمام هذه الاعتبارات جميعها يظل الوقت عنصراً حاكماً في تحديد مستقبل النزاع، حيث أصبح الوقت المتاح أمام التسويات السياسية أقل بكثير مما مضى، ومع ذلك تتنامى في الأيام الأخيرة فرص التوصل لحل السياسي يقوم على التقاسم العادل للمنافع الاقتصادية لمنطقة النزاع بين الصومال وكينيا، في ظل حاجة البلدين لتجنب الصراع، وفي ظل الدفع الدولي في هذا الاتجاه.
فالقوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبدعم من حلفائها الإقليميين تدعم الحل السياسي، الأمر الذي يجعل من المنتظر أن يشهد الملف تدخلاً دولياً متصاعداً في الشهور السابقة على بدء عقد جلسات الاستماع أمام محكمة العدل الدولية.
الآراء والمعلومات الواردة في التحليلات تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجه الصحيفة
aXA6IDMuMTQxLjE5OC4xMyA= جزيرة ام اند امز