المصدر الرئيسي لهذه الدهشة وهذا الانبهار، هو طبعاً الإعجاب بقدرات العقل البشري الذي لم يكتف فقط بتصنيع روبوت بسمات أقرب ما تكون للبشر.
خلّف الإنسان الآلي "الروبوت" صوفيا حالة من الانبهار والدهشة في العالم العربي. إذ زارت "صوفيا" المملكة العربية السعودية في شهر أكتوبر الماضي، وحصلت على الجنسية السعودية وأدير معها حوار أصاب من حضروه ومن شاهدوه في وسائل الإعلام المختلفة بالذهول. ثم أجرت معها إحدى القنوات التلفزيونية المصرية حديثاً أثار أيضاً حالة من الانبهار والدهشة لتعقبه أسئلة أقل ما توصف به أنها عبثية.
والمصدر الرئيسي لهذه الدهشة وهذا الانبهار هو طبعاً الإعجاب بقدرات العقل البشري الذي لم يكتف فقط بتصنيع روبوت بسمات أقرب ما تكون للبشر، ولكن أيضاً في التقدم المذهل الذي تحقق في مجال "الذكاء الاصطناعي" بما جعل الروبوت "صوفيا" لا تكتفي فقط بالتفاعل بشكل محاكٍ للبشر تماماً في أحاديثها معهم، بل أيضاً بقدرات فذة في تقديم ردود منطقية تتسم باللباقة والذكاء والسخرية أحياناً. بل إن بعض الردود كان بها ما يخيف إذ استدعت لبعض الأذهان ما صورته بعض أفلام سينما الخيال العلمي من سيطرة الروبوتات، أي صوفيا وأخواتها، على البشر بل ربما الخلاص من جنس البشر كلية.
وعلى حين بدأنا في منطقتنا بهذه الدهشة والإعجاب والانبهار، وانتهى البعض منا إلى إثارة أسئلة عبثية حول صوفيا والمجالات التي يمكن استخدامها فيها، كان منتجو صوفيا تشغلهم أسئلة مختلفة تماماً. فعوضاً عن الأسئلة العبثية انشغل العديد من العلماء كل في مجاله بالانعكاسات المحتملة لتطور صناعة الروبوت وتطور المهارات التي يمكن أن يتم تغذية الروبوتات بها على مختلف جوانب الحياة.
فقد تصاعدت في السنوات الأخيرة درجة الاهتمام التي انشغل بها كبار العلماء والاقتصاد الغربيين بقضية تطور الروبوت.
فاستخدام الروبوت في بعض الصناعات التحويلية معروف منذ عدة عقود، ولكن الملاحظ مع التطور السريع مؤخراً في صناعة الروبوت ومع تعدد وتعقد المهارات والإمكانيات التي يمكن تزويده بها بات من الممكن أن يدخل في أغلب الصناعات وبتكلفة تقل كثيراً عن تكلفة العمل البشري، وبدون المطالب والمشكلات التي تترافق بالضرورة مع توظيف البشر.
والملاحظ في هذا الشأن أن استخدام الروبوت في العمليات الصناعية لم يقتصر على البلدان الغربية المتقدمة تكنولوجياً فقط، بل امتد في الواقع إلى عدد آخر من البلدان التي ترى أن عليها أن تواكب هذا التطور، حتى ولو لم تكن تشكو حالياً من ارتفاع بالغ في تكلفة العمالة البشرية كالصين مثلاً.
إذا كان سيجرى الاستغناء عن العمالة البشرية بكثافة، سواء كانت عمالة يدوية أو ذهنية، ففي أي مجال سيعمل البشر؟ وكيف سيكسبون عيشهم؟ والأمر الأكثر تعقيداً ومنطقية في الوقت ذاته هو التساؤل عما سيترتب على ذلك من آثار على استمرار الحياة الاقتصادية ذاتها.
والواقع أنه تم في الماضي وسيتم مستقبلاً في البلدان المتقدمة إحلال الآلة (الروبوت الآن) محل العمل البشري طالما كان ذلك الأمر أكثر ربحية لمالكي المصانع.
ويمضي بعض علماء الاقتصاد والاجتماع إلى القول إن التكنولوجيا تتيح الإمكانية، ليس فحسب أمام إحلال الروبوت محل ذوي "الياقات الزرقاء" أي عمال الصناعة، بل إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أصبحت تهدد أيضاً فرص عمل الكثير من ذوي "الياقات البيضاء" أصحاب العمل الذهني في المكاتب. ويتحدث هؤلاء عن أفق زمني قصير لا يتجاوز ربما ثلاثة أو أربعة عقود لتختفي من الوجود كلياً بعض المهن التي يمارسها الكثير من البشر المؤهلين تعليمياً بشكل جيد كالمحاسبة والمحاماة والاستشارات القانونية، بل ربما أيضاً بعض التخصصات الطبية بما في ذلك إجراء الجراحات الدقيقة التي يتولى الروبوت أمر بعضها بالفعل في بعض البلدان المتقدمة الآن.
وإزاء هذا التطور يثار العديد من الأسئلة حول مستقبل المجتمعات البشرية، فإذا كان سيجرى الاستغناء عن العمالة البشرية بكثافة، سواء كانت عمالة يدوية أو ذهنية، ففي أي مجال سيعمل البشر؟ وكيف سيكسبون عيشهم؟ والأمر الأكثر تعقيداً ومنطقية في الوقت ذاته هو التساؤل عما سيترتب على ذلك من آثار على استمرار الحياة الاقتصادية ذاتها، فإذا كان سيتم الاستغناء عن العمل البشري فهذا يعنى انخفاضاً بالغاً في الدخول، ومن ثم في القدرة الشرائية أو الطلب الفعال في الأسواق، فكيف إذاً سيتم تصريف الإنتاج الكثيف الأقل تكلفة الذي تتيحه التكنولوجيا الأكثر تطوراً؟ ومن أين سيحصل أصحاب الأعمال على الدخول التي تمكنهم من الحياة والاستمرار في أعمالهم.
وتطرح القضية نفسها أيضاً فيما يتعلق بتطور اقتصادات المعمورة ككل، خاصة في البلدان الأقل تقدماً. فواحدة من النظريات التي حاولت تفسير نجاح التجربة الآسيوية في التنمية، ما أطلق عليها نظرية «الأوز الطائر». وتذهب هذه النظرية إلى أن التنمية في هذه المنطقة لم تتم بشكل فردي، بل تمت بشكل شبه جماعي. حيث إن بلدان المنطقة تطير في شكل سرب الأوز، وإن كان على ارتفاعات وبسرعات مختلفة. إذ تميل البلدان الأكثر تقدماً إلى نقل الصناعات الأقل تقدماً إلى البلدان التي تليها في سلم التطور الاقتصادي.
وتستفيد البلدان المتقدمة من الرخص النسبي للأيدي العاملة في البلدان الأقل تقدماً بنقل صناعاتها الكثيفة العمالة إليها، وتستفيد البلدان الأقل تقدماً بسيرها في طريق التصنيع والتصدير للخارج. وتقدم النظرية للدلالة على ذلك حالة اليابان التي استفادت من التقدم الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية في التقدم على طريق التصنيع والتصدير للسوق الأمريكي ذاته، وغيره من الأسواق العالمية، ثم قامت اليابان في مرحلة تالية بلعب دور قاطرة النمو لكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وتايلاند، وهو ما قامت به هونج كونج، ومكاو، وتايوان في الصين، حيث كانت أغلب الاستثمارات الخارجية المباشرة، خاصة في بداية الانطلاق الاقتصادي الصيني تعود لهذه البلدان. ولا تقتصر العلاقة ــ حسب نظرية الأوز الطائرــ على مجال الاستثمارات فحسب، إنما تمتد أيضاً إلى مجال التجارة حيث يتعزز التبادل التجاري بين هذه البلدان عقب تدفق الاستثمارات أو يأتي مترافقاً معها. فإذا ما اتجهت البلدان المتقدمة إلى تصنيع ما تحتاجه حتى في القطاعات التي يقال إنها كثيفة العمالة بإحلال الروبوت محل العمالة البشرية طالما كانت ربحيتها أعلى، فلن يتم بالتالي نقل الصناعات إلى الدول الأقل تقدماً، وأين ستجد هذه الدول النامية أسواقاً لصادراتها إذا ما حاولت الاستمرار في تصنيع نفس المنتجات؟!
صوفيا وأخواتها إذاً تدعونا ليس فقط للاندهاش والانبهار، أو طرح الأسئلة الساذجة والعبثية، بل إلى طرح الأسئلة والتفكير حول مستقبل البشرية ومستقبل مجتمعاتنا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة