رغم الطابع الاحتفالي الذي اتخذه توسيع الاتحاد الأوروبي ووصل إلى 28 دولة منضمّة إليه، يرى المراقبون صعوبة في المرحلة المقبلة.
رغم الطابع الاحتفالي المبهج الذي اتخذه توسيع الاتحاد الأوروبي ووصل إلى 28 دولة منضمّة إليه، يرى المراقبون أن الأوروبيين يواجهون تحديات صعبة في المرحلة المقبلة، أهمها استيعاب دول فقيرة والحد من عمليات الهجرة غير القانونية عبر الحدود ومحاربة الجريمة المنظمة وإقرار دستور جديد. وبهذا التوسع بدأت تساؤلات البحث عن الهوية الثقافية تطرح نفسها أكثر من أي وقت مضى.
أوروبا حلمت بالوحدة لكي تجابه صعود الإمبريالية الاقتصادية الأمريكية إلا أنها لم تتمكن من الانفلات من هذا الفلك الجهنمي الذي نزل على رؤوس البشر مثل أطباق طائرة وهو "العولمة"، لذلك فالحديث عن هوية ثقافية أوروبية يحمل الكثير من المخاطر في الوقت الحاضر.
لم يكن موضوع الاتحاد الأوروبي جديدا في جوهره ذلك أن عددا كبيرا من المفكرين والأدباء والكتّاب والعلماء حلموا بأوروبا الموحدة أمثال: سان سيمون وفيكتور هيغو ودريو لاروشيل وجوليان بوندا وإيمانويل بيرل وديني روجمون وغيرهم. وكل أولئك حاولوا الهرب من السقوط في النظرة القومية الضيقة لذلك انصبت طموحاتهم على تأسيس أرض تاريخية تعتمد على مبدأ الحضارة والثقافة. والسؤال الجوهري المطروح حاليا هو:
هل أدى هذا الطموح بالنتيجة إلى تأسيس قطب قوي في مواجهة العالم الأنجلو ـــ سكسوني خاة بعد انسحاب بريطانيا؟ وهل أدى ذلك أيضا إلى مواجهة القيم التجارية لأمريكا ودينها الوحداني في الربح؟ وهل حاولت أوروبا أن تستوحي قيما تتفق مع تراث القيم المسيحية؟
مما لاشك فيه، أن أوروبا حلمت بالوحدة لكي تجابه صعود الإمبريالية الاقتصادية الأمريكية إلا أنها لم تتمكن من الانفلات من هذا الفلك الجهنمي الذي نزل على رؤوس البشر مثل أطباق طائرة وهو "العولمة"، لذلك فالحديث عن هوية ثقافية أوروبية يحمل الكثير من المخاطر في الوقت الحاضر.
إن العالم الأوروبي الذي ينتمي إلى الروح والفن انبعث من خلال العالم الروماني، عبر اللغة اللاتينية، مرسخًا القيم الإنسانية العظيمة، فقد شهد القرن الثامن عشر انفجار الثقافة الأوروبية عبر الأفكار، ومن ثم شهد القرنان الثامن عشر والعشرون أوج التناقضات وأعنف الصراعات. بيد أن هناك كتّابا أمثال رومان رولان وستيفان زفايج وريلكه وبول فاليري وأرنست يونغر ومالابارت ودريو لاروشيل ومالرو أدخلوا فكرة الأخوة الأدبية الأوروبية في رؤوسنا. وهذه الفكرة لم تأخذ أبعادها في الأدب العربي الذي يشهد منافسة شديدة وكأننا في حلبة مصارعة.
ليس هذا فقط بل هناك تساؤلات أخرى تطرح نفسها بإلحاح بعد ولادة العملة الأوروبية الموحدة ـــاليوروـــ وهو :
هل أن الثقافة الأدبية لدول الاتحاد الأوروبي قادرة على الاحتفاظ بالهوية التي تبتلعها العولمة يوما بعد آخر؟
إن ما يجمع الكتاب والأدباء والمفكرين الأوروبيين هو الماضي، ولكن هذا الماضي ليس مقدسًا وهذه التقاليد ليست في لوح محفوظ، فالماضي والتقاليد يتغذيان على حداثة لا حدود لها في الوقت الحاضر. فإننا نجد صعوبة في اكتشاف ما يوحد هؤلاء في هذا الفضاء الجديد. فبعد أن كانت المراجع الثقافية والأدبية والفنية تجد جذورها في روما وباريس ومدريد وفيينا بدأنا نجدها في نيويورك ولوس أنجلس وطوكيو وبعض بلدان أوروبا الشرقية بعد انضمامها مؤخرًا. لذا تعود جذور الحديث عن الهوية الأوروبية إلى الثورة الفرنسية. وقد تفاوت هذا الحديث انطلاقا من هيرمان فون كيسرلنغ، العنصري الذي أعلن فكرة أوروبا المتفوقة قوميا، وانتهاءً بموس هيس، الهيغلي اليساري، المليء بالتناقضات. ولا نتحدث عن سان سيمون، المؤسس في مجال بناء الهوية الأوروبية.
وإذا ما عدنا بالتاريخ إلى الوراء، فلا بد لنا من أن نتذكر مؤتمر السلام الذي انعقد في 21 أغسطس عام 1849 وعلى الخصوص خطاب الافتتاح الذي ألقاه فكتور هيغو، وأضفى الشعر على الهوية الأوروبية عندما قال "يأتي يوم تحل الأصوات الانتخابية محل المدافع والقنابل، وسيحكم مجلس الشيوخ عموم أوروبا". ودعا فكتور هيغو ولأول مرة إلى إنشاء الولايات المتحدة لأوروبا وقال "سيأتي يوم نرى فيه الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا تلتقيان وجها لوجه وتبسطان اليد فوق البحار".
ودعا جوليان بونتا إلى أن الهوية الأوروبية لا يمكن تأسيسها باختفاء اللاتينية وانبثاق اللغات القومية وذلك في عام 1933. بينما قال إيمانيويل بيرل في عام 1946 بأن أوروبا ستكون متواضعة ولا تتوحد أبدا وهي لن تعتمد إلا على مبادئ المصالح. فالهوية الأدبية والثقافية لأوروبا تبزغ الآن كتحدٍ للعولمة التي تثير المخاوف عند الأوروبيين. ومن أجل أن تتواصل هذه الهوية ينبغي أن تحافظ على تنوعها الثقافي واللغوي والتراثي. فالهوية الأدبية الأوروبية صاغتها الأعمال الإبداعية من سرفاتنتس حتى ريلكه.
والسؤال المؤرق هو: كيف يمكن الحفاظ على الهوية في الحداثة؟
وهذه الهوية لا يمكن أن يزيلها لا الإنترنت ولا قرارات تكنوقراط بروكسل ولا بنوك فرانكفورت .
الكوليج دي فرانس، وهي من أعرق الأكاديميات، احتضنت مؤخرا مؤتمر "الهوية الأدبية لأوروبا"، أسهم في إحيائه عدد من الكتاب والمفكرين والشعراء؛ أبرزهم: مارك فيمارولي وميشيل زنك وغيف بونفوا وهارالد وينريش، من أجل تعريف الهوية الأدبية لأوروبا وتحديدها.
ولعل الأسئلة التي طرحها المؤتمر تبقى في حيوية دائمة ومنها:
ما الأسس التي تُبنى عليها المخيلة الأوروبية؟ وما الأساطير التي تشكل أوروبا؟ وهل الهوية الثقافية ميراث مشترك؟ وكيف يتم المحافظة على هذه الهوية في ظل التكنولوجيا الجديدة؟ وكيف نواجه الأزمات الاجتماعية؟ وكيف تقف أوروبا في وجه الأمركة؟
وثمة أسئلة أخرى طرحت في هذا السياق، ولم يطرح أي مفكر أن هذه الهوية مهددة بالانقراض. لا يمكن للعولمة أن تقضي على الهوية الثقافية والأدبية لأوروبا. فعلى سبيل المثال، أن فلاديمير نابوكوف تخلى عن لغته الروسية وابتدع لغة إنجليزية مذهلة، وكذلك فعل جوزيف كونراد وجوزيف برودسكي. هؤلاء الكتاب والأدباء يتشكلون من جزء روسي، وجزء إنجليزي، وجزء من المخيلة. ويذكر رومان بيترو سيتاني، أحد الذين شاركوا في ندوة "الكوليج دي فرانس" قائلا :
أليس فيرجيل وأوفيد هما من أبناء العولمة لعصرهما؟
بينما ذهب آخر إلى القول وهو هارولد وينريش: ليس الأوروبي هو مَن يولد في أوروبا بل هو الذي يصبح أوروبيا ويحب التنوّع الثقافي في القارة القديمة. فيما أشار جان مولينو إلى: أننا لا ينبغي أن نخاف من العولمة والكوننة لأنهما تمتدان إلى جذور التاريخ وليسا بجديدتين على البشرية، والخطر لا يأتي من الخارج بل من الانطواء والانغلاق على ذواتنا.
فيما يذهب آخرون إلى أن العولمة عبارة عن تحدٍ لأوروبا.
هكذا، وفي نهاية المطاف، انبثقت الهوية الأوروبية ككتلة اقتصادية جديدة ونظام مالي رصين، وهي الوعاء الذي يحافظ على ديمومة الهوية الثقافية والأدبية.
كل شيء يبدأ بالأدب وينتهي بالسياسة.
فهل يمكن لنا، نحن العرب، أن نتعامل مع الأقطاب الجديدة التي تظهر في العالم، ونحن أهل الهوية الثقافية والأدبية المشتركة بالفطرة والقدر بامتياز؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة