السودان.. بين تعدد المطالب ومحدودية الخيارات
جاء التغيير الذي حدث في السودان مؤخرا ليؤكد تقويض المشروعين التركي والقطري في المنطقة.
يبدو أن مشروع الإخوان في المنطقة يتم تقويضه في دولة تلو الأخرى، ويبدو أن السودان بات أحد مظاهر انتهاء وأفول هذا التنظيم، فقد نجح الحراك الشعبي السوداني، بعد أن استمر لشهور، في 11 أبريل الجاري في الإطاحة بالرئيس عمر البشير، بعد ثلاثة عقود من حكم جماعته وحزبه لواحدة من أهم الدول العربية وهي السودان، وهي الفترة التي حاول خلالها أخونة هذه الدولة، وكان يظن أنه نجح في ذلك، واعتقد البعض أيضاً أنه استوعب درس تنظيم الإخوان الإرهابي في مصر وتونس، غير أن الظروف الإقليمية والدولية ساعدت الحراك الداخلي على تحقيق مطالبه والإطاحة بالبشير، ليتسلم المجلس العسكري الحكم لفترة انتقالية، تقدر بنحو عامين.
وإن كان الحراك الشعبي لم يقبل بتشكيل المجلس العسكري في بدايته، ونجح في فرض إرادته وتعديل هذا المجلس وقيادته، ليتسلم الفريق أول "عبدالفتاح البرهان" مقاليد الأمور بعد يوم واحد من الإطاحة بالبشير، ويبدو أن نجاح الإرادة الشعبية في تغيير رأس المجلس العسكري الانتقالي أعطت لهذه الإرادة قوة دفع ذاتية جعلتها ترى أنها صاحبة الحق وحدها، وهو ما عبر عنه موقف تجمع المهنيين السودانيين، التنظيم الأبرز بين التنظيمات الثورية داخل الدولة السودانية الآن، مع بعض الحركات والتنظيمات التي تسعى للحرية والتغيير.
واستجاب المجلس العسكري للعديد من مطالب المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني، وقاموا بتغيير العديد من قادة القوات المسلحة، وكان أولها تغيير قيادة هذا المجس (عوض بن عوف) ورئيس جهاز المخابرات، وتلاها عدد من القيادات العسكرية والأمنية والإعلامية، ويبدو أن هذا التوجه طال عددا من رجال الإعلام، ورجال حزب البشير (المؤتمر الوطني)، وبعض أبناء التنظيم في السودان، وبعض رموز وزارة الخارجية، وعددا من قيادات القوات المسلحة، كما تم إطلاق سراح المعتقلين الذين ألقى بهم البشير في السجون بسبب هذا الحرك الشعبي.
مواقف دولية داعمة
يبدو أن استجابة المجلس العسكري الانتقالي في السودان أغرت الجماهير على استمرار الضغط، والاستمرار في الاعتصام حتى تشكيل حكومة مدنية تتسلم زمام الأمور، ويرى البعض أن المجلس العسكري سيستجيب ومؤهل للقيام بذلك، ويبدو أن رأي تجمع المهنيين السوداني يلقى قبولا بين أبناء السودان، خاصة أنه يطالب بمجلس سيادي مدني يدير شئون البلاد، ومن المتوقع أن تلقى هذه الدعوة استجابة من المجلس العسكري الانتقالي، ومن الممكن أن نشهد قريباً مجلسا هجينا من المدنيين والعسكريين لإدارة الوضع في السودان، خاصة أن البعض يرى أن هذا الموقف سيعبر عن أكبر مكاسب الثورة السودانية.
كان الحراك الشعبي السوداني، الذي لا يزال مستمراً، قد أفرز مواقف دولية وإقليمية متباينة، ففي حين يراه البعض أنه انقلاب عسكري، وتروج له باعتباره انقضاضا على الإرادة الشعبية، وأن العقوبات هي الأداة الأساسية لعودة السودان إلى نظامه المدني، وترى دول أخرى أن هذا الوضع هو التعبير السوداني عن إرادتهم الحرة، خاصة أنه تم قراءته في ضوء التاريخ السوداني الحديث، وكيف يتم تغيير السلطة في هذه الدولة بين فترة وأخرى، وهو ما يجعلنا نقول إن ما حدث ويحدث في السودان هو طابع سوداني، ويلقى قبولاً ودعماً من قطاع واسع من الشعب السوداني.
وهو ما عبرت عنه مواقف العديد من القوى الدولية والإقليمية التي رحبت بهذا التغيير، خاصة من الدول العربية، التي رفعت شعار قبول وضع السودان، وعدم رفض هذا التغيير، ويدللون على ذلك بالقدرة الاستجابية التي يبديها المجلس العسكري، وهو ما جعل دولة الإمارات العربية المتحدة ترحب بهذا التغيير، وترسل المملكة العربية السعودية مساعدات في الأيام القادمة، كما أرسلت مصر وفداً أمنياً، ويجري الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالاً مع الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ليؤكد استمرار الدعم المصري لاستقرار السودان ولخيارات الشعب السوداني.
هذا ويبدو الموقف الدولي مختلفاً، فهو الموقف الذي يأخذ مقعد المتابعة، دونما اعتراض أو تأييد، ودعت أغلب دوله، إلى الآن، إلى انتقال سلمي للسلطة، فلم تصف الولايات المتحدة ما حدث بالانقلاب، بل استخدمت لفظ انتقال، ودعت إلى "انتقال يقوده المدنيون في أسرع وقت"، وكان هو موقف الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي، كذلك فإن الاتحاد الأفريقي أبدى استعداده للعمل مع السودان، خلال المرحلة الحالية، للتوافق المطلوب الذي يسمح بفترة انتقالية آمنة، وحكومة مدنية تهيئ المناخ لانتخابات حرة ونزيهة.
تقويض المشروعين التركي والقطري
يبدو أن هذا التغيير أجهض أحلام وطموحات بعض الدول ، وعلى رأسها الدول الداعمة للإرهاب، خاصة كل من تركيا وقطر، فهي الدول التي يبدو أن تغيير الوضع في السودان أنهى على مشروع إقليمي كانت تقوم به، فلا ننسى أن قطر هي الأداة الأمريكية أحيانا، والإيرانية أحياناً أخرى في تقويض الأمن القومي العربي، وكانت ترعى مؤخراً اتجاه خروج السودان من التحالف السني الذي تقوده السعودية، لصالح توجيه السودان لعلاقات مع قوى إقليمية بديلة، ولكن جاء التغيير، ومعه تأكيد المجلس العسكري الانتقالي استمرار القوات السودانية في اليمن، ليظهر أن هذا التغيير أعاد بوصلة التوجه السوداني إلى الدائرة العربية، وهو ما تم ترجمته في رفض، أو عدم وضوح موقف، زيارة الوفد القطري للسودان، وإقالة قادة من وزارة الخارجية بسبب تصريحاتهم عن تلك الزيارة.
جاء التغيير الذي حدث في السودان ليؤكد تقويض المشروع التركي في المنطقة، وتبدد حلم الإمبراطورية أو السلطنة التي كان يحلم بها "أردوغان"، خاصة بعد نتائج زيارته الأخيرة إلى السودان، وحصوله على العديد من الامتيازات والحقوق، وعلى رأسها جزيرة سواكن، التي كانت تعد أداة تهديد للأمن القومي المصري والسعودي على يد قوات تركية في هذه المنطقة، وتم تصوير أن هذا القرار يلقى قبولاً شعبيا وقتها، وهو ما ظهر عكسه، ويبدو أنه كان أحد أسباب الحراك الشعبي غير المباشرة، خاصة أنه حمل دلالة أن السودان تسلم مفاتيح سلطته وإدارة أموره إلى السلطان العثماني.
كما تأثر الحراك السوداني، وأثر كذلك، في الموقف في ليبيا، وتطورات الأوضاع في مناطق محيطة أخرى في القارة، وعلى رأسها دول الجوار، فتغير موقف الإدارة الأمريكية من الجيش الليبي بقيادة المشير حفتر، وتزيد الضغط على حكومة الإخوان في لبيبا، كما ارتبط الموقف في السودان مع تطورات الأوضاع في الجزائر، ومحاولة القيادات الجزائرية تلبية مطالب الجماهير، ملتفتين إلى التطورات التي تحدث في السودان، وهو ما جعل الموقف الدولي يأخذ صفة المحايد أو الحذر تجاه هذه التطورات.
ولكن يبدو الوضع في السودان يتجه إلى المزيد من المطالب الشعبية، التي تحاول استغلال القدرة الاستجابية للمجلس العسكري الانتقالي، كما تعبر عن ارتفاع طموحات وآمال هذه الجماهير في التأييد الدولي والإقليمي، لتكون أداة مساعدة السودان في الخروج من الوضع الاقتصادي المتأزم الذي كان السبب الرئيسي في الحراك الشعبي، ويبدو أن المطالب لن تقتصر على تلك النابعة من البيئة الداخلية، فسيكون على السودان الجديد القيام بدور وتحقيق طموحات أطراف إقليمية عدة، ترى فيه أداة لأمنها القومي، وحائط صد لمطامع وتحركات تهدد هذا الأمن، كما تراه بعض القوى الدولية أداة لإعادة التوازن إلى المنطقة بين الكثير من القوى المتنافسة، ويصبح التساؤل المهم: هل يستطيع السودان، وقياداته وجماهيره ومؤسساته، تحقيق التوزان بين تلك المطالب، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية غير المستقرة داخليا وإقليميا ودوليا، وهي الأوضاع التي تحد من خيارات هذا البلد الباحث عن الاستقرار خلال الشهور القليلة المقبلة؟
**الدكتور: باسم رزق عدلي مدرس العلوم السياسية - كلية الدراسات الإفريقية العليا - جامعة القاهرة
aXA6IDUyLjE0LjYuNDEg
جزيرة ام اند امز