بمعنى آخر، إن الصوت هو صوت الأنا المتكلم بصفتة الماهية التي تتراءى للوعي، وعندما أتكلم فأنا أكون واعٍ بكوني حاضراً في ما أفكر به.
تكلمنا في منشورنا السابق عن الهوية السردية، واستفاضة لما طرحته الدكتوره شما محمد خالد في مقالها المعنون "بانعكاسات" على صفحات جريدة الاتحاد في الثاني من أبريل. اما في هذا المنشور فسوف أركز على ثيمة أخرى تعتبر ذات اهمية خاصة في الفكر الغربي والفكر الإنساني بشكل عام، ألا وهي سلطة الصوت وعلاقتها بانعكاس الداخل والتي عرجت عليها الكاتبة في نصها بخفة عابرة.
مازال الجدل بين سلطة الصوت وسلطة الكتابة أو النص قائم، وأيهما له الأسبقية وأيهما له السطوة؟ سؤال سيبقى محيرا لكل متأمل في فلسفة الوجود والكون
بالنسبة لمفهوم سلطة المؤسسة عند "فوكو" وسلطة الصوت عند فيلسوف التفكيك "جاك دريدا" وعلاقتهما بانعكاس الداخل، فتجدر الإشارة هنا إلى قضية مهمة، وهي كما يقول الفليسوف الأمريكي المعاصر الدكتور الجيس ميكنوس، إن اللحظة التي انقلبت معها القيم في الفكر الغربي هي تلك التي اعتبر فيها الفكر وفعل التفكير ھو القيمة الحقيقة للطبيعة الإنسانية عند كل من أرسطو وأفلاطون.. وإن ھناك ضرورة لوجود سلطة تتمثل في نظام تربوي یھذب النفس من أجل صيانتها والحفاظ على طبيعتها النقية المهددة دائماً بعالم الحس "الجسد". وينبغي لهذه السلطة التربوية أن تكون لا نهائية ومتواصلة، لأن عالم الأھواء "الحس" قوي وشديد وفي حالة تهديد لا متناھية لحضور العقل الرصين. وأنه إذا كان الإنسان جسداً ونفساً تفكر فإنه يتعين علينا صيانة النفس دائماً عن طريق التربية حتى يتسنى للنفس التخلص من ظلامية الجسد، وتشكيل رؤية مثالية تقوم على العقل. ھنا ابتدأ الانشطار الثنائي في الرؤية في الفلسفة الغربية، الانشطار بين عالمين أحدھما یمثل الحقيقة (العقل) والآخر الضلال (الجسد)، ومن ھنا أيضاً انطلقت ثنائية دی كارت الشهيرة. -انظر أيضاً قارئ فوكو، لبول رينبو.
من ھذا التصور الأفلاطوني، كما يقول الفليسوف الأمريكي المعاصر ألجيس ميكونس، أصبحت مسألة المعنى والكتابة مرتبطة بمسألة "الماھية"، الشيء/ما ھو؟
بمعنى آخر إن لكل شيء ماھية تتميز بالحضور المادي، والفكر ھو جوھر الإنسان بطبيعته الحقيقة، فبالتالي ھو قابل للنقل في حضوره من شخص لآخر عن طريق التواصل الاجتماعي، الحوار والمناقشة، أو من خلال اللغة بوصفهيا الأداة التي تسمى الأشياء وتضفي المعنى، وتقوم بإيصال الأفكار بين العقول. فالسلطة ھنا للصوت بكونه ماھية حاضرة، أما الكتابة بكل أدواتها من ورق وحروف وغيره فما ھي إلا تعبير مادي لحفظ ما تم نسخه من العقل.
وطرح دريدا في كتابة "الكتابة والاختلاف" أنه ضمن ھذا المنظور تأسس مفهوم الكتابة واللغة في الفكر الغربي الذي يقوم على مفهوم الدليل بثنائيته المشطورة إلى مكونين متباعدين وھما الدال والمدلول. ومن ھذا المنطلق لا كتابة تقوم إلا على التميز المطلق بين اللفظ والملفوظ. فاللفظ مرتبط بالتلفظ والنطق والتنفس واللسان والأذن ويعمل على تبليغ معنى مصدره الصوت الباطني المخفي في النفس والخاطر والذي ينتظر من يترجمه أو يكشفه في كلمة أو إشارة. حيث يقول أرسطو "ما يخرج بالصوت دال على الآثار التي في النفس وما يكتب دال على ما يخرج بالصوت"، إن رنين الصوت ھو رمز لانعكاسات النفس التي تتضمن كل أشكال المعقولات والمتخيلات والتصورات، ومن ثم تأتي الكتابة لاحقاً لترجمتها والتعبير عنها أو تحبيرھا. وبهذا تصبح الكتابة في مرتبة ثانوية وظيفتها نسخ وحفظ ما يصدره الصوت. أو كما يقول "دوسوسير" واصفاً الكتابة بأنها ما هي إلا وسيلة لتمثيل الكلام وبالتالي لا حاجة لأخذھا بعين الاعتبار؛ ھي شيء تابع.
بمعنى آخر، إن الصوت ھو صوت الأنا المتكلم بصفته الماھية التي تتراءى للوعي، وعندما أتكلم فأنا أكون واعياً بكوني حاضراً فيما أفكر به، وحين أنتج ملفوظاً فإن ھذا الأخير يكون امتدادًا لزمان وعيي ومن ثم ينبغي للكتابة أن تكون أداة نسخ ونقل للحقيقة في أعلى تجلياتها، وتكون مرتبطة بالزمان المتصل لصوت الوعي لكي تضمن عذرية الفكر ونقاوة المعنى الخالي من أية تدخلات. وھذا يؤكد أن الكتابة ما هي إلا أداة نقل وليس لها القدرة، كما يقول دريدا، على اغتصاب المعنى وتحويله.
نقد دريدا ھذا التمركز حول الصوت الذي أسست له النظرية الغربية (أفلاطون، دو سوسير، ليفي شترواس وغيرھم) التي منحت الكلام الأفضلية على الكتابة، وحاول الخروج بالكتابة من ھذه الأزمة المعرفية التي تعطي مكانة خاصة للكلمة المنطوقة "الصوت" وتمارسان تسلطاً واضحاً، وممارسة تمثلت كما وصفها في إخصاء الكتابة والحطّ من قدرها.
ولكي يتجاوز دريدا ھذا الطرح الاختزالي عمل على تفكيك الثنائيات المتعارضة التى قامت عليها الفسلفة الغربية: الكلام/الكتابة، الروح/الجسد، الدال/المدلول، العقل/ اللاعقل. من خلال تحديد الوحدة التاريخية المتماسكة التي من خلالها تحدد الرؤية للعالم وما فيه، والتي ھي العقل بالنسبة إليهم أو النزعة نحو إضفاء المعقولية على كل شيء.
ھذه النزعة التي يرى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أنها بلغت أوجها في المجتمعات الغربية، حيث أوضح ذلك في طروحاته المختلفة عن مؤسسات الترويض والعزل والتربية التي خلقها الغرب لترويض الجسد ووضعه ضمن منظومة النظام الاقتصادي السياسي الخاص به.
ارتأى دريدا أنه لا بد من ملاحقة ھذه الوحدة التاريخية المتماسكة التي هي الأساس المحدد لكل الأشكال الفكرية السابقة، وأنه لا بد من تقويض وتفكيك الثنائيات المتعارضة التي أفرزتها، والاعتماد في ھذه الحالة على مفهومي التباعد والتغاير أو التعارض لأنه حسب قوله لا توجد ھناك ذات متجانسة قائمة بنفسها ومنغلقة عن الآخر، كل ما ھناك لك ھو التباعد، وللذات مسافة بينها وبين نفسها من خلالها تتشكل وتولد الدلالة.
بناء عليه، ليس ھناك تجانس بل كل ما ھنالك ھو تصدع واختلاف، وليست ھنالك حقيقة واحدة بل ھناك حقائق كثيرة وممكنة. وتبعاً لذلك لا توجد ھناك ھوية واحدة متطابقة مع نفسها بل ھناك كما يقول "فوكو" ھويات، وفي كل ھوية تقطن نفوس مختلفة تتنازع فيما بينها ويقهر بعضها البعض. أو كما يقول ريكوار ھناك ھوية سردية لكل واحد منا وفي كل ھوية سردية توجد ھويات سردية مختلفة.
ختاماً، ما زال الجدل بين سلطة الصوت وسلطة الكتابة أو النص قائم، وأيهما له الأسبقية وأيهما له السطوة؟ سؤال سيبقى محيراً لكل متأمل في فلسفة الوجود والكون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة