كوريا الجنوبية.. العملاق القادم من نهر هان كانج
لا يمكن النظر إلى قصة نجاح كوريا الجنوبية دون النظر إلى سنوات من التحديات والحروب التي عاشها هذا البلد.
برز اسم كوريا الجنوبية كواحدة من أسرع البلدان نموا اقتصاديا خلال النصف الثاني من القرن العشرين بعد سنوات من الاحتلال الياباني والحروب المستمرة.
معجزة نهر هان كانج كما يطلق عليها واحدة من أبرز النماذج الاقتصادية نجاحا إذ تحولت بعد خروجها من حرب 1950-1953 مع كوريا الشمالية إلى مجتمع متقدم ومتطور في غضون عقود، بدءًا من الستينيات وتحديدا في عهد الرئيس بارك تشونج-هي.
- محمد بن زايد في سيؤول.. تعزيز للشراكات السياسية والاقتصادية والإقليمية
- الإمارات وكوريا الجنوبية.. شراكة استراتيجية شاملة تستشرف المستقبل
جغرافيا، يمكن تقسيم كوريا الجنوبية إلى 4 مناطق عامة: المنطقة الشرقية من سلاسل الجبال العالية والسهول الساحلية الضيقة، والمنطقة الغربية من سهول ساحلية واسعة وأحواض الأنهار والتلال، وجنوب غرب المنطقة من الجبال والوديان، وسادت في المنطقة الجنوبية الشرقية من حوض واسع من نهر ناكدونج، وهي منطقة جبلية في معظمها، وهي في معظمها غير صالحة للزراعة، والأراضي المنخفضة، وتقع في المقام الأول في الغرب والجنوب الشرقي، ولا تشكل إلا 30٪ من المساحة الكلية للأراضي.
لا يمكن النظر لقصة نجاح كوريا الجنوبية، هذا البلد الذي يقع في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية التي تمتد 1100 كيلومتر (680 ميل) من البر الآسيوي دون النظر إلى سنوات من التحديات والحروب التي عاشتها كوريا، إذ خضعت للاستعمار الياباني لمدة 36 عاماً منذ عام 1910 حتى 1946، وسرعان ما تلقفتها نيران الصراعات السياسية وأصحبت مسرحا للصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي الذي نتج عنه تقسيم كوريا إلى جنوبية وأخرى شمالية لتبدأ بذلك فصلا من الصراعات نتيجة تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية خاصة بعد الحرب الكورية التي استمرت لمدة 3 سنوات منذ 1950 وحتى 1953.
ويقدر حجم الدمار الذي لحق بكوريا الجنوبية أثناء سنوات الحرب بنحو 69 مليار دولار، فضلا عن الخسائر البشرية التي قدرت بنحو 1.3 مليون كوري جنوبي، ويعزو مراقبون أولى خطوات كوريا الجنوبية للتعافي من سنوات الاستعمار والنزاعات المسلحة إلى الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الأمريكي في الخمسينيات من القرن الماضي، لتبدأ منذ التاريخ معركة جديدة ولكن هذه المرة مع التنمية.
وقد شجعت الحكومات المتعاقبة استيراد المواد الخام والتكنولوجيا، والادخار والاستثمار على الاستهلاك، ووجهت الموارد إلى الصناعات الموجهة للتصدير التي لا تزال مهمة للاقتصاد الكوري الجنوبي حتى يومنا هذا، وقد ارتفع النمو في ظل هذه السياسات وظل قوياً بما يكفي لدفع كوريا الجنوبية إلى مرتبة الاقتصادات المتقدمة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وقد اعتمدت كوريا الجنوبية على العديد من المحاور التي أهلتها لتكون واحدة من أهم اقتصاديات العالم، حيث عمدت إلى التركيز على الصناعات التي لها قدرة تنافسية عالية وفي مقدمتها الإلكترونيات وصناعة السفن والسيارات، والبتروكيماويات وهي عضو في العديد من المنظمات الدولية، منها الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة التعاون والتنمية، وهي أيضا عضو من الأعضاء المؤسسين لـ"إبيك"- منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي - وقمة شرق آسيا.
كما عمدت كوريا الجنوبية إلى فتح أسواق واعدة جديدة مع تأسيس هيئة ترويج التجارة الكورية وأسست من أجل ذلك بنك التصدير والاستيراد في عام 1969 من أجل توفير التمويل اللازم للصناعات الكورية.
ومثل عام 1997 في أعقاب الأزمة المالية الآسيوية تحديا جديدا واجهته كوريا الجنوبية، فبالإضافة إلى ما ترتب على الأزمة من ركود وتصاعد في معدلات البطالة لجأت كوريا إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي ما وضع الاقتصاد الكوري تحت رقابة الصندوق وقيوده.
واتجهت الحكومة الكورية إلى الاعتماد على حزمة من الإجراءات الإصلاحية تضمنت إعادة هيكلة وتحديث اقتصاد البلاد، وحزمة من السياسات التي هدفت إلى دعم صناعة تقنيات المعلومات، بالإضافة إلى حزمة إجراءات للحفاظ على استقرار قيمة الوون الكوري، والإصلاح الجذري للنظام المالي، مع صياغة مجموعة من التدابير الحاسمة لمكافحة الفساد، وإعادة هيكلة القطاعات المالية التي تم دمج بعضها وخصخصة الكثير من المؤسسات العامة.
ولعل أبرز ما يميز تجربة الإصلاح الاقتصادي الكورية هو التعاون في إجراءات الإصلاح الحكومة الكورية والشعب الكوري الذي دعم الحكومة طوعا من خلال التبرعات لسداد الديون الخارجية للدولة، حيث تبرع الكوريون بمجوهراتهم وذهبهم؛ وهو ما أدى إلى زيادة احتياطيات الذهب في البلاد، ما مكنها من التعافي السريع الذي كان نتيجته التزايد التدريجي لقيمة الوون، وانخفاض معدل البطالة، وهو ما تبعه انتعاشة في مجالات الإنتاج والاستثمار والصادرات والواردات والقوة الشرائية المحلية، وعقب مرور عام 2000 كان الاقتصاد الكوري قد نجح نجاحا لافتا وسريعا في تجاوز تداعيات الأزمة وآثارها.
العملاق الجنوبي الذي اعتبر عند تأسيسه واحدا من أفقر اقتصاديات آسيا، إذ كان دخل الفرد لا يتعدى 80 دولارا سنويا، تمكن خلال عقود من أن يتجاوز دخل الفرد 33 ألف دولار سنوياً وفقا لإحصائيات عام 2014، كما يعد دخل الفرد في كوريا الجنوبية أعلى بمعدل 20 مرة من جارتها الشمالية وفقا لإحصائيات عام 2016.
ويعد العامل البشري أحد أهم العوامل التي اعتمدت عليها معجزة نهر هان كانج، فالبلد الذي يبلغ عدد سكانه وفقا لبيانات الكتاب السنوي لوكالة الاستخبارات الأمريكية 51.5 مليون نسمة لعام 2018، ويعاني من شح في الموارد الطبيعية والمساحة الجغرافية "100032 كيلومترا مربعا" نجح عبر العديد من الاستثمارات في قطاعات التعليم والتدريب والتأهيل في تحويل الثروة البشرية إلى وقود لنهضتها إذ حظيت كوريا الجنوبية بالتصنيف الأول عالميا في مجال التعليم خلال عامي ٢٠١٦ و٢٠١٧.
تلخيص التجربة الكورية الجنوبية في الاعتماد على الذات والتطوير المستمر والاستفادة من كل الموارد المتاحة، بل تذليل العقبات؛ ما يعد نموذجا ملهما في كيفية تحويل الإخفاقات إلى نجاحات عدة.