الصمت الجيولوجي لن يطول، فكما تحركت القارات يوما، تلوح في الأفق معالم تضاريس جديدة للنفوذ والسيادة والحكمة السياسية..
وتقترب علامات انهيار تحالفات هشة وبناء تحالفات أخرى في الشرق الأوسط، حيث ستتحرك الخريطة السياسية تحت أقدام اللاعبين كما لو أن التاريخ قرر أن يبدأ من جديد نحو معادلة استقرار مختلفة.
ومن حيث أراقب وأتابع باهتمام، يظهر الجنوب العربي كلاعب يسعى أن يكون محورا رئيسيا للتوازنات القادمة، فحين نستمع إلى الرئيس عيدروس قاسم الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، نلاحظ أنه يدرك لغة الأرقام والموانئ وخطوط الملاحة وأهميتها الاستراتيجية بشكل عميق، وأنه يسعى بكل جهده لتأمين البحر العربي وباب المندب لضمان مفاتيح الأمن الإقليمي من قناة السويس إلى موانئ القرن الأفريقي.
مقابل ذلك، تتحرك جماعة الإخوان في اليمن فوق أنقاض "مشروع الوحدة الميت"، في محاولة لاستعادة دور مفقود عبر أدواتها الخبيثة المسمومة، كالإعلام، والفوضى، واللغة المشبعة بالتحريض، فتُدار غرف الأخبار وتتنقل الروايات من «بلقيس» إلى «يمن شباب»، ومن «سهيل» إلى «المهرية»، لتعيد إنتاج الأكاذيب نفسها بوجوه مختلفة، إنها "هندسة الفوضى" التي لا يعرف الإخوان غيرها، يسهل ملاحظة خيوطها تمتد في الفضاء الرقمي، وأهدافها تنتهي عند نقطة واحدة: إبطاء صعود الجنوب العربي ومنعه من استعادة دولته التي نهبها السارقون والفاسدون.
الجنوب العربي لا يرد على ضجيج "إخوان الإصلاح" المتصاعد، فبينما كانت قنوات الإخوان تغرق بسيول من التحليلات المعلّبة بالخبث والعبث، كان الزبيدي في موسكو يفتح ملفات الطاقة والبنية التحتية مع ألكسندر نوفاك، نائب رئيس الوزراء الروسي، الأسبوع الماضي، يحرك المياه الراكدة في ملف الاستثمار الدبلوماسي الاقتصادي، حيث يعلم أن روسيا لديها الرغبة الأكيدة في موضع قدم في الممرات البحرية بين آسيا وأفريقيا، ولابد أن يمثل الجنوب العربي، بثرواته وموقعه الاستراتيجي، نافذة آمنة نحو المياه الدافئة، فسعى الزبيدي، من هذا المحور، لتحويل الجغرافيا إلى سياسة، والاقتصاد إلى لغة اعتراف.
صحيح أن الزبيدي، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وشعب الجنوب كله، لم يستريحوا يوما منذ الوحدة المشؤومة عام 1990، ولم يتمكنوا من التقاط أنفاسهم منذ اجتياح الجنوب عام 1994، وما زالت تتصاعد حولهم الحروب والمؤامرات والدسائس التي ينسجها الحوثي والإخوان ويطبخانها، وأنه ما زال أعوان الثنائي الإرهابي يدعمون ويسهلون طريقهما للمزيد من انتهاك الجنوب، إلا أن الصمود الشجاع والمواجهة الجريئة التي تحمل قيادات المجلس الانتقالي لزيارات مكوكية عالمية، وتجعل الزبيدي يجلس أمام أحد أعمدة صناعة القرار في الكرملين ليحدثه عن النفط والغاز والطاقة المتجددة، سوف يختصر المعاني ليوضح الفرق بين من يبني مستقبله بالحوار والعمل الجاد الدؤوب وبين من يُنفق وقته في صناعة الأكاذيب.
يلاحظ المراقبون أنه في الوقت الذي تنهمك فيه جماعة الإخوان في إنتاج سردياتها التحريضية، كانت القيادة الجنوبية تفتح نوافذها على العالم، ومن حضرموت إلى عدن، ومن نيويورك إلى موسكو، تبني شبكة من العلاقات تقوم على المصالح المشتركة، فمثلا، حين لمح الزبيدي إمكانية مستقبلية لانضمام الجنوب العربي إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، التي أعادت التوازن للشرق الأوسط، بدأ يخطط للانضمام إلى المسار الواقعي المعتدل في الفكر السياسي العربي، وأن يكون جزءا منه، فهو المسار الذي بدأته دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي يقوم على المصارحة الواقعية، وعلى رؤية السلام الإقليمي كهدف نهائي، آملا أن تستفيد منه الأجيال القادمة.
وكما نرى الآن بوضوح، وكلما اقترب الجنوب من شراكةٍ دولية، اشتعلت شاشات الإخوان بحديث عن “الانقسامات” و”التمرد” و”التفكك”، إنها معركة نفسية أكثر منها إعلامية، تستهدف التشويش على الوعي، لكن غاب عنهم أن الجنوب قد أصبح فعلا فضاءً من الوعي الجمعي؛ مجتمعٌ تعلم من الحرب أن الكلمة أخطر من الرصاصة، وأن الإعلام يمكن أن يكون جيشاً من العقلاء.
لقد بنى المجلس الانتقالي الجنوبي واحدة من التجارب النادرة في المنطقة: جيشٌ يحمي الأرض، وإعلامٌ يحمي الوعي، وقيادةٌ توازن بين التمكين الداخلي والانفتاح الخارجي، وكذلك تمكنت القوات المسلحة الجنوبية، بما تمتلكه من خبرة ميدانية ومنظومة انضباطٍ متقدمة، أن تصبح ركيزة استقرار إقليمي، تشارك الحلفاء في مكافحة الإرهاب وتأمين السواحل، فأثبتت أن الجنوب له دور فاعلٌ مهما حاول البعض تهميشه أو الطعن فيه.
وجهة نظري أن المجتمع الدولي بدأ يقرأ المعادلة الجديدة التي تفرض نفسها في اليمن بشطريه الجنوبي والشمالي، فالشمال المحتل من قبل الجماعة الحوثية الإرهابية يعاني من ويلات إنسانية شديدة الخطوة، من الجوع والأوبئة والأمراض المستعصية إلى سياسة التجهيل والاعتقال وإجبار الأطفال على حمل السلاح بدلا من الذهاب إلى المدارس، فضلا عن اغتصاب كافة حقوق المرأة هناك، وفي المقابل، بات يُنظر عالميا إلى الجنوب العربي كمنطقة استقرارٍ في هذا البحر المضطرب، لذلك تتعالى الأصوات الدولية التي تدعو للاعتراف بحق الجنوب في تقرير مصيره، من واشنطن إلى لندن.
أما في موسكو، فترى النخبة الاستراتيجية أن عدن يمكن أن تكون الشريك التجاري الأكثر توازناً في الممر الآمن للطاقة، وهذا التحول في النظرة الدولية لم يأتِ صدفة، بل نتيجة عملٍ سياسي طويل استخدم أدوات الاقتصاد والدبلوماسية والثقافة، حتى أصبح الجنوب جزءاً من النقاش الدولي حول مستقبل البحر الأحمر والمحيط الهندي.
كما أرى، ستواصل جماعة الإخوان تآكلها الذاتي؛ لأن الفوضى التي صممتها كأداة تحولت إلى مصيدة، فالإعلام الذي أرادته سلاحاً ضد الجنوب انقلب عليها، فكل كذبة تُفقدها جمهوراً، وكل تحريضٍ يكشف ضعفها أمام مشروعٍ يبني نفسه على وضوحٍ أخلاقي وسياسي، إنها معركة بين النور والظلام، بين مشروعٍ يكتب نفسه في المستقبل، وآخرٍ يكرر ماضيه في العتمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة