تعيش المدرسة اليوم لحظة تحوّل عميقة هي الأشد منذ نشأتها الحديثة في زمن الثورة الصناعية، حين كانت رمزًا للانضباط والمعرفة المؤسسية.
أما في عصر الذكاء الاصطناعي، فقد انتقلت من فضاء مغلق إلى شبكة مفتوحة، ومن «جدران التعليم» إلى «فضاءات التعلّم».
فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرّد أداة مساعدة، بل أصبح فاعلاً يعيد صياغة العلاقة بين المعلّم والمتعلّم والمعرفة نفسها. لم يعد التعليم يقوم على التلقين ونقل المعلومات، بل على بناء الكفاءات وتنمية التفكير النقدي والقدرة على التمييز بين الموثوق والزائف في عالمٍ يغمره تدفّق رقمي لا نهائي.
لم تعد المدرسة المكان الوحيد للتعلّم، فكل هاتف ذكي بات مكتبة كونية، وكل تطبيق منصة للتعلّم الذاتي. لكنّ هذا التحوّل لا يعني نهاية المدرسة، بل إعادة تعريفها ودورها في تربية الوعي. فبينما يمكن للتكنولوجيا أن تشرح وتقيّم، لا يمكنها أن تربّي ضميرًا أو تغرس قيَمًا أو تبني مسؤولية اجتماعية بمفردها.
المدرسة الجديدة ليست لتلقّي الإجابات، بل لتعلّم طرح الأسئلة الصحيحة. إنها تنتقل من نموذج «المعلّم الملقّن» إلى «المعلّم الموجّه»، الذي يصمم التجربة التعليمية ويقود الطلاب إلى البحث والاكتشاف والفكر والنقد.
فالذكاء الاصطناعي قد يحلّ المسائل الرياضية، لكنه لا يستطيع أن يلهم طالبًا أو يزرع فيه الشغف بالمعرفة.
مدرسة المستقبل ستكون نظامًا بيئيًا تربويًا مفتوحًا، تتكامل فيه الفصول الواقعية مع المنصات الافتراضية، ويعمل فيها المعلّم جنبًا إلى جنب مع المساعد الذكي. دوره لن يقتصر على نقل المعرفة، بل سيمتدّ إلى توجيه استخدام التقنية بوعي ومسؤولية.
وفي زمنٍ يغزو فيه المحتوى الرقمي عقول الشباب من مصادر مجهولة، تصبح المدرسة خط الدفاع الأول عن العقل النقدي، وعن التربية على التمييز بين الحقيقة والدعاية، وبين الفكرة والمعلومة.
فالتحدي الحقيقي ليس في امتلاك التقنية، بل في امتلاك المعنى. فالخوارزميات تستطيع تحليل اللغة والصورة، لكنها عاجزة عن إدراك القيم الإنسانية التي تحكم الاختيار الأخلاقي.
المدرسة في عصر الذكاء الاصطناعي مطالَبة بأن تُخرّج «مواطنين رقميين واعين» قادرين على استخدام الذكاء الاصطناعي لاستهلاك المعرفة وإنتاجها بمسؤولية.
إنها لم تعد تعدّ فقط «مستهلك معرفة»، بل تبني عقولًا تفكر وإنسانًا يَعي.
في هذا السياق، لن تُلغى المدرسة، بل ستزداد أهميتها بوصفها مؤسسة تجمع بين التقنية والقيم، وبين العلم والضمير. فالذكاء الاصطناعي قد يجعلنا أذكى حسابيًا، لكنه لا يجعلنا بمفرده أكثر حكمة أو إنسانية.
ومستقبل التعليم لن يُقاس بعدد الأجهزة أو سرعة الشبكات، بل بقدرة المدرسة على تحويل المعرفة إلى وعي والمعلومة إلى حكمة.
المدرسة التي نحتاجها ليست تلك التي تُجهّز طلابها بأحدث الخوارزميات، بل التي تزرع فيهم السؤال والشغف والضمير. فبينما تتقدّم التكنولوجيا بلا حدود، يبقى مصير الإنسانية معلّقًا على قدرتها في جعل الذكاء الاصطناعي وسيلةً للارتقاء بالإنسان لا لاستبداله.
وهكذا تظلّ المدرسة، رغم كل التحوّلات، أكثر مؤسسات المستقبل إنسانيةً وذكاءً في آنٍ واحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة