في ضوء نظرية الصورة واللغة لدى لودفيغ فيتغنشتاين (1889-1951)، نسعى إلى تناول مستقبل حركة حماس في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي متحررين من أي انتماء سياسي أو أيديولوجي.
فوفقاً لفيتغنشتاين اللغة بكلماتها وجملها تصور الواقع كما تصوّره الصورة؛ فالجمل والعبارات والكلمات الصادقة تعكس الواقع كما هو، لا كما نرغب أن يكون، وكلما عكسنا الواقع بصورتهِ الحقيقية كلما قل الجدل والخلاف في القضايا الصراعية.
انطلاقاً من هذه النظرية، يمكننا أن نتساءل: هل ستنتهي حماس كحركة مسلّحة وتيار سياسي ضمن مسار القضية الفلسطينية؟ إن البحث في هذا السؤال يتطلّب قراءة الواقع المعاصر وكتابته في جمل تعكس الحقيقة.
معضلة تجمد مفاوضات السلام، بعد تحرير الكويت بدأت مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتوقفت بسبب نفوذ وحضور اليمين المتطرف الإسرائيلي الذي تسبب في مقتل إسحق رابين ونجح في إثارة الصراع بين منظمة فتح وحركة حماس.
وفي فترتنا المعاصرة، هناك تحول أيديولوجي في بنية الحكم بإسرائيل، فإسرائيل اليوم يحكمها أكثر ائتلافات اليمين تشددًا في تاريخها، بقيادة بنيامين نتنياهو، ووزراء من التيارات الدينية والقومية مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
فاليمين المتطرف يعتبر فكرة الدولة الفلسطينية مرفوضة، ويرى في الضفة الغربية أرضا إسرائيلية تاريخية، لذا يشرع وينفذ بناء المستوطنات لتمزيق الضفة الغربية، فالضفة حسب رؤية اليمين المتطرف ليست منطقة تفاوض، أي أن الرفض أيديولوجيّ عقدي قبل أن يكون سياسيا.
أما صفوف معارضة اليمين الإسرائيلي يمكن وصفها بأنها مشتتة وضعيفة، فلا يوجد اليوم في إسرائيل تيار سياسي قوي يدافع بجدية عن حل الدولتين ويحظى بدعم شعبي في الداخل الإسرائيلي، حتى قادة اليسار والوسط يفضّلون تجميد المسار السياسي بدل الدخول في مفاوضات مكلفةً سياسيًا على المستوى الداخلي.
ومن الأهمية بمكان ذكر أن الرأي العام الإسرائيلي أصبح يميل نحو الأمن أولًا، وليس التسوية، خاصةً وأن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تلاها من حرب غزة، زادت القناعة داخل إسرائيل بأن أي كيان فلسطيني مستقل في غزة أو الضفة الغربية سيشكل تهديدًا أمنيًا مباشرًا.
ومن أسباب التوقف الرئيسية، غياب الشريك الفلسطيني الموحّد، فإسرائيل تقول رسميًا إنها لا تجد "شريكًا فلسطينيًا" واحدًا يمكنه تنفيذ اتفاق شامل.
ومن العوامل المهمة في توقف مفاوضات السلام، تراجع الضغط الدولي الحقيقي، رغم الدعوات الغربية المتكررة لاستئناف المفاوضات. كما أن الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لإسرائيل، تجنّبت فرض إعادة مفاوضات السلام بين الطرفين.
وهناك عوامل مهمة مؤثرة في عدم إحياء المفاوضات مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر واحتلال العراق والحرب على الإرهاب، وصولاً إلى أحداث ما يسمى بالربيع العربي.
وبجملة واضحة نستطيع الكتابة عبر قلم فيتغنشتاين عن حقيقة الوضع في إسرائيل، بأن إسرائيل تفضل أن تدير الصراع بدلاً من التسوية والحل النهائي، وهذا الجملة تنطبق على مضمون خطة ترامب الحالية.
وعلى جانب حركة حماس، نجد بأن حماس تحاول نزع تمثيل الشعب الفلسطيني من منظمة فتح، فعند المقارنة بينهما، نجد في النشأة والعقيدة بأن فتح نشأت من رحم التيار القومي اليساري في الخارج، بينما وُلدت حماس من التيار الإسلامي الداخلي المرتبط بجماعة الإخوان.
وتمتد المقارنة إلى التوجه السياسي، فبينما فتح بعد الكفاح المسلح الطويل مع إسرائيل تميل إلى الحلول السياسية والتسويات الدولية وفق مبدأ الدولتين، فإن حركة حماس تتمسك بخط المقاومة ورفض الاعتراف بإسرائيل إلا كهدنة مؤقتة، وهي بذلك تعيّد ما قامت به فتح.
وفي المقارنة بينمهما على مستوى التحالفات الإقليمية والدولية، ترتبط فتح بالنظام العربي الإقليمي والدعم الدولي، بينما تستند حماس إلى محور المقاومة الذي يعيش حالة انهيار وضعف.
وعند تحليل واقع حماس اليوم، نكتشف بكل سهولة بأنها متوغلة في إقليم غزة، ولها حضور يعمل بسرية في إقليم الضفة الغربية، وتمتلك قوة عسكرية كمليشيا، وحضورا في الحياة المدنية والاجتماعية.
فحماس ليست مجرد تنظيم عسكري وسياسي؛ بل تمتلك شبكة اجتماعية وخدماتية ضخمة من المؤسسات الدعوية والدينية، والجمعيات الخيرية والمؤسسات التعليمية والإعلامية وحتى المستشفيات، إلى جانب حضور إعلامي وفكري مؤثرين.
وهي بذلك تعتبر جزءًا من النسيج الاجتماعي الغزّي والفلسطيني، لا مجرد فصيل مسلح.
وتمتلك حماس علاقات إقليمية، فهي قريبة من الإخوان المسلمين فكريًا، ولها دعم مالي وعسكري من إيران، وسياسي وإنساني ومالي من قطر وتركيا، كما أن القاهرة لها علاقة أمنية معقّدة مع حماس تتراوح بين التعاون والحذر، فالحكمة المصرية دائماً تحاول خدمة ونصرة القضية الفلسطينية.
ويمكن أن تتحول حماس بعد حرب أكتوبر والدمار والإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة إلى حزب سياسي يشارك في إدارة غزة حسب خطة ترامب، وذلك يعتمد على مدى استمرار شعبيتها وشرعيتها لدى الغزيين، وهذا الافتراض يؤكده ما تمتلكه حماس من أطياف سياسية متعددة.
فهناك مقابل تيار المقاومة الصلبة في حماس، يكمن التيار السياسي البراغماتي ورمزهُ خالد مشعل.
فبروز التيار البراغماتي في حماس ربما سيتعزز بسبب ما حدث من تصفية لقادة حماس، وانهيار الدعم المادي واللوجستي الخارجي المتمثل بمحور المقاومة، وشروط نزع السلاح، حيث ستصبح الحركة غير قادرة على الحفاظ على بنى القيادة والقدرات الميدانية المسلحة.
ومن الأهمية بمكان بأن هناك جزءًا كبيرا مفقود في القاعدة الاجتماعية لحماس في غزة بسبب حجم الدمار والقتل والإبادة التي خلفتها عملية السابع من أكتوبر.
وعلى النقيض، فهذه العوامل ربما تجعل حماس مستمرة بصورة سياسية وفاعلة في غزة عبر حقيقة أنها مازالت متجذرة كفكرة في أهل غزة، كما أن الحرب الإسرائيلية المدمرة أكدت في عقول أهل غزة غياب الإنسانية وقواعد الحرب لدى إسرائيل مع تكشفت خطة التهجير، مما يجعل الكثير يؤيد حماس ليس في غزة وحسب بل وفي الضفة الغربية، كما أن حماس ربما تكون أفضل من الفراغ السياسي الذي قد يخلق انقسامات وصدامات داخلية في غزة.
بهذه القراءة لواقع حماس، ممكن كتابة بعض الجمل لتقريب الحقيقة التي سيرسمها المستقبل عبر قلم فيتغنشتاين.
فالسيناريوهات المحتملة المستندة إلى وقائع حقيقية، هي، سيناريو التعافي، فبعد هزيمة عسكرية مؤلمة تكون هناك إعادة بناء ببطء بصورة توغل في إدارة غزة الدولية المحتملة والقادمة، وهذا السيناريو يستند على مدى قوة دخول وترابط حماس في نسيج أهل غزة الاجتماعي.
وعلى النقيض يكمن سيناريو الانقسام عبر التفتت إلى فصائل محلية، بعضها يتجه للتهدئة وبعضها لمزيد من العنف.
وممكن لنا أن نتصور سيناريو زوال حماس فقط عند ظهور سلطة فلسطينية جديدة منتخبة مدعومة محليًا وإقليميًا ودوليًا تمثل الشعب الفلسطيني مع إعادة مفاوضات السلام، وعندها تموت الفكرة أمام مسار وخطوات مشروع الدولة الفلسطينية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة