تواجه المجتمعات المعاصرة دائرة واسعة من التحديات والمعضلات المختلفة.
فبينما تكابد بعض المجتمعات افتقاراً في المتطلبات الأساسية للحياة كالمياه الصالحة للشرب والمأوى والأكل، وتعاني من انتشار الأمراض والأوبئة وضعف فرص التعليم والتنمية، إلى جانب استمرار الحروب والصراعات الداخلية الدامية ونهب مواردها، مقابل ذلك، هناك مجتمعات تنشغل بقضايا التلوث والطاقة، كما البعض منها مهتم بمعدلات البطالة ومعضلة الخصوبة وفهم الأجيال وأثر التكنولوجيا والرقمنة على الحياة والسياسة العامة وتحقيق مستويات عالية من جودة الحياة، وتتسع كثيراً دائرة القضايا بين الأمم نحو الكوارث الطبيعية، وحقوق الإنسان والطفل والأشخاص ذوي الإعاقة إلى مسألة المساواة والتمييز العرقي وغيرها الكثير من المعضلات كاللاجئين والمهاجرين وارتفاع معدلات الجريمة وانتشار المخدرات.
ومن دائرة التحديات والمعضلات الاجتماعية هذه سنأخذ ثلاثة قضايا، الشيخوخة السكانية (كبار السن)، وتحولات الأجيال (جيل Z)، والطبقة المنسية (البريكاريا)، لتشكيل ما يمكن تسميته مثلثًا اجتماعيًا. فالمثلث بطبيعتهِ الهندسية الحادة، يرمز إلى الانتباه والحذر، وهو ما يفسر استخدامه في إشارات الخطر والتحذير على الطرقات، وكذلك في الصناعات الحساسة كالكيميائية والطبية، حيث يتطلب الأمر تركيزًا ووعيًا شديدين. بهذا الشكل، يصبح المثلث ليس مجرد رمز هندسي، بل أداة تحذيرية لوضع اجتماعي دولي.
أولاً: كبار السن والتحول الديموغرافي العالمي:
شهد العالم في عام 2018 سابقةً تاريخيةً حين تجاوز عدد من هم فوق 65 عامًا عدد الأطفال دون الخامسة لأول مرة. ولم يكن ذلك مجرد رقم، بل مؤشرًا على تغير توازن التركيبة السكانية ونُذر أزمة مستقبلية في سوق العمل والرعاية الصحية والعلاقات الاجتماعية.
ويرتبط تزايد أعداد المسنين بتقدم الطب وتوفر الرعاية الصحية في مستوياتها المقبولة، وهذا الأمر قاد إلى ظاهرة شيخوخة المجتمعات في الدول المتقدمة والنامية على السواء.
ولقد استجابت منظمة الصحة العالمية لهذه الظاهرة بإطلاق مبادرة المدن والمجتمعات الصديقة للمسنين (AFCC) عام 2010، لتوجيه السياسات نحو تمكين كبار السن من حياة كريمة ومستقلة، وتعزيز مشاركتهم في النشاط الاجتماعي والاقتصادي، وتوفير البنية التحتية والعمرانية المناسبة لجميع فئات المجتمع، حيث ترتكز فلسفة هذه المبادرة على أن الشيخوخة ليست عبئًا، بل رصيد معرفي وانساني، وذاكرة اجتماعية، وخبرة بشرية واقتصادية ناهيك عن بعدها في العدالة الإنسانية، ودخولها في تطريز مسارات البنية التحتية. وظاهر كبار السن أفرزت بدورها ظاهرة الخرف، والذي يعد أحد التحديات الكبرى المرتبطة بتزايد كبار السن،.
وتشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى وجود أكثر من 57 مليون مصاب عالميًا، مع تسجيل 10 ملايين حالة جديدة سنويًا. ومن أبرز السياسات لمواجهة الخرف وحالات ألزهايمر خروج مبادرة المجتمعات الصديقة للخرف في المملكة المتحدة، الهادفة إلى دعم المصابين ودمجهم مجتمعيًا، في حين ابتكرت بعض الدول حلولًا إنسانية رائدة مثل قرية هوخَفَيك (Hogeweyk) في هولندا، التي تتيح لمرضى ألزهايمر العيش في بيئة آمنة تحاكي الحياة اليومية الطبيعية، مما يقلل من معاناتهم ويحافظ على كرامتهم. ويمكن القول بأن الشيخوخة تجاوزت كونها قضية إنسانية واجتماعية إلى أن أصبحت قضية تنموية وإنسانية تؤثر في التوازن الديموغرافي، واستدامة نظم العمل والتقاعد، ومستقبل الأجيال الصاعدة، خاصة في ظل تقلص معدلات الخصوبة في الكثير من المجتمعات والأمم.
ثانياً: جيل Z بين الثورة الرقمية وتحديات المستقبل:
يُعرف جيل Z بأنه المولود بين عامي 1997 و2012، أي جيل الإنترنت والذكاء الاصطناعي والميديا الاجتماعية. فقد نشأ هذا الجيل في عالم متصل رقميًا بلا حدود، حتى صار أكثر وعيًا بالتكنولوجيا والابتكار. وتشير الدراسات إلى أن هذا الجيل يشترك مع الأجيال السابقة، خصوصًا جيل X مواليد 1965حتى 1980، وأيضا مع جيل Y المولود بين 1981 و1996 في انخفاض معدلات الخصوبة وتأخر الزواج، نتيجة التحولات في القيم الاجتماعية كعمل الوالدين وفي حالات كثير يوجد الانفصال بينهما، وتزايد تكاليف المعيشة وتفضيل فترات حياة الحرية الفردية.
حقيقةً، إن تفاعل الأجيال — X وY وZ — يعكس انتقال البشرية من عصر الإنتاج الصناعي والتكنولوجيا إلى عصر الاقتصاد المعرفي والتكنولوجيا الرقمية، حيث تتبدل القيم والأدوار والمفاهيم حول العمل والهوية، والترابط الأسري والاجتماعي، والايدولوجيات، والاهتمامات، وحتى ساعات العمل. ويمكن القول بأن جيل Z يتميز بوعي بيئي وسياسي متقدم، وبنزعة قوية نحو العدالة الاجتماعية والمساواة والابتكار، لكنه في الوقت ذاته يرفض النظم التقليدية في التعليم والعمل وفي الأسرة، ويميل إلى المرونة أكثر من الأجيال السابقة.
ومن بين التحديات، تواجه شريحة عريضة من جيل Z تحديًا مزدوجًا، من جهة الانفتاح على اقتصاد رقمي مرن قائم على العمل الحر والمنصات الإلكترونية، ومن جهة أخرى انعدام الاستقرار الوظيفي والأمان الاجتماعي، وهكذا يجد الكثير من الشباب أنفسهم في دائرة ظاهرة البريكاريا، وهي الطبقة الجديدة من العاملين المؤقتين الذين يفتقرون إلى الضمانات المعيشية الأساسية.
ثالثاً: البريكاريا – الطبقة المسنية في النظام الليبرالي الجديد:
لقد حرر الاقتصادي البريطاني جاي ستاندنغ (Guy Standing) مصطلح البريكاريا (The Precariat) لوصف طبقة اجتماعية جديدة نتجت عن النظام الرأسمالي المعولم، تتميز بانعدام الاستقرار في العمل والدخل والهوية. فهذه الطبقة هي نتاج مباشر لسياسات الخصخصة وحرية رأس المال وتراجع دور الدولة في الرعاية الاجتماعية. بينما ازدهرت الشركات العابرة للقارات، تراجع الأمان الوظيفي لملايين العاملين حول العالم.
تتكون البريكاريا من عمال مؤقتين ومهاجرين وخريجين جدد يعملون دون عقود ثابتة أو تأمينات، في بيئة تتسم بالمرونة الظاهرية وعدم الاستقرار الواقعي، وهي تنتشر بسرعة وتضم الكثير من جيل Z الذي يدخل سوقًا مشبعًا بالتنافس والعمل الجزئي وانعدام الأمن الوظيفي.
حقيقةً، لقد صاغت الليبرالية الجديدة النظام الدولي نحو فتح الأسواق، وخصخصة القطاعات الحكومية، والبحث عن فائض القيمة، وتعزيز المكاسب للشركات متعددة الجنسيات، وهنا يمتعض «ستاندنج» من كون الليبرالية حفظت حقوق الملكية الفكرية كإنجاز لمنظمة التجارة العالمية عام 1995، حيث قادت إلى استخلاص الربح للشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية، مقابل عجزها أمام تكوّن واستمرار طبقة البريكاريا في الواقع الاجتماعي والسياسي للدول الغربية وغيرها من الدول حول العالم.
فالوضع الاجتماعي الغربي خاصةً يعكس ثلاث طبقات، الأولى تضم الأثرياء والنخبة السياسية والاقتصادية، بينما الطبقة الثانية تمثل الموظفين الذين لديهم رواتب مستمرة، وتأمينات ومميزات الوظيفة الأساسية.
وهذه الطبقة في حالة مستقرة ومطمئنة لمستقبلها، على عكس الطبقة الثالثة «البريكاريا»، والتي يُقرع لها ناقوس الخطر. فالبريكاريا تتحدد بكونها تحمل ثقل العمل والمعيشة، حيث تحتوي على أعمال متعددة للفرد الواحد، وبأجور منخفضة غير دائمة، كما أن الحالة النفسية مشتتة الذهن والتفكير، لذا يطلق عليها «جاي ستاندنج» الطبقة المحرومة، والتي يَتَمَلَكها شعور بالخوف من الأخطاء، أو تعرضهم لحوادث تفقدهم القدرة على العمل فهم من دون تأمينات، وفي الوقت نفسه يتنامى لديها الغضب.
تنقسم البريكاريا إلى ثلاث فصائل، الفصيل الأول Atavists- الورائيون، وهؤلاء ينظرون إلى الوراء نحو الماضي الجميل والمفقود، حيث آباؤهم وأجدادهم كان لديهم وظائف في مختلف المهن في المصانع والخدمات والقطاعات، ويغلب على هذا الفصيل كونه دون التعليم الجامعي، ومعظم أفراد هذا الفصيل يستمتعون ويميلون إلى الشعبوين والفاشيين الجدد الذين يخاطبونهم بالتجانس الثقافي، وتوفير فرص العمل عبر الحد من الهجرة واستدعاء هيبة وسيطرة الدولة على اقتصادها من الخصخصة والشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات. أما الفصيل الثاني من البريكاريا، فهم المهاجرون واللاجئون الذين يصارعهم الحنين لوطنهم السابق مقابل صعوبة الحياة في البلدان المهاجرين إليها، حيث يغلب عليهم العمل في أعمال من دون تأمين ومميزات. وإلى الفصيل الثالث، التقدميون كما يصفهم المفكر «ستاندنج»، وهم من خرجي الكليات والجامعات، وهؤلاء يواجهون معضلة الحصول على وظيفة متكاملة الأركان من الراتب والمميزات الوظيفية، كالإجازات السنوية والمرضية ومختلف التأمينات، وهم يختلفون عن الفئة الأولى الورائيون بأنهم لا يميلون بشكل واضح إلى دعم المحافظين القوميين والفاشيين، بل يبحثون عن إصلاح سياسي واجتماعي لوضعهم في إطار العملية السياسية.
وعلى الرغم من عدم وجود أي تنظيم متكامل لطبقة وظاهرة البريكاريا، فإن في حالة تحقيق مطالبها وحقوقها في الأجور الدائمة والتأمينات الأساسية للحياة، فإنها ستلغي نفسها كطبقة محرومة وغاضبة، أما في حالة استمرت الطبقة في الاتساع وتزايد أعدادها وخاصةً في الدول الغربية مهد الليبرالية وانتشارها للعالم، فإنها قد تكون قادرة على إعادة صياغة أو تحطيم النظام الليبرالي.
يتبين لنا أن هذا المثلث الاجتماعي يسلط الضوء على ثلاث ظواهر مترابطة رغم اختلافها، فالشيخوخة كتحول ديموغرافي عالمي يختبر مدى جاهزية السياسات الاجتماعية والعامة في رعاية الإنسان وضمان كرامته وكيف يمكن دعم الخصوبة، كما يجسد المثلث جيل Z كصوت جديد لجيل اجتماعي رقمي يمتلك أدوات غير مسبوقة للتعبير والتغيير والعمل والابتكار وبناء الحياة في مسيرة استمرار تعاقب الأجيال وتغير الأيديولوجيات والاهتمامات، بينما تفصح الزاوية الحادة في المثلث الاجتماعي عن انكسار في العدالة، التي تتجسد في طبقة البريكاريا، كما تحمل نذر هشاشة النظام الليبرالي الرأسمالي حين يغيب التوازن بين السوق والعدالة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة