عاد السودان مرة أخرى إلى دائرة الظلام، بعد أن تسللت قوى الإسلام السياسي من جديد إلى المشهد، لتعيد إنتاج الفوضى بوجه ديني زائف، رافعة رايات الدم، ومبشرة بجهاد جديد على أنقاض وطن منكوب.
الخميس الماضي، جدّدت وزارة الخارجية الأمريكية تحذيرها لمواطنيها من السفر إلى السودان، رافعة تصنيف خطر السفر إلى المستوى الرابع: (لا تسافر)، وهو أعلى درجات تصنيف الخطر في سلّم التحذيرات الأمريكية.
بهذا الإعلان، أكدت واشنطن أن السودان، بعد الحرب التي أشعلها الإسلاميون عبر الجيش الذي يسيطرون على قيادته، لم يعد وجهة ممكنة كما كان في عهد الحكومة المدنية برئاسة الدكتور حمدوك، التي انقلب عليها الجيش في 25 أكتوبر 2021، بل صار ساحة مفتوحة للفوضى، تتنازعه البنادق، وتغيب عنه الدولة.
اللافت في التحذير الجديد أنه أضاف فقرتين تحملان دلالات بالغة الخطورة: "الاختطاف" و "الصحة".
الأولى تكشف أن البلاد باتت مرتعاً لمليشيات دينية متطرفة عادت إلى الواجهة بعد أن تغذت على الفوضى، مستعيدة خطابها القديم تحت عباءة الدين والسلاح.
إن التحذير من خطر اختطاف الأمريكيين في السودان لا يشي بمخاطر أمنية فحسب، بل يعلن عودة الجماعات الإسلامية المتشددة إلى مسرح الأحداث، بعد أن تخلقت من رماد الحرب لتفرض منطقها بالترهيب والسيطرة.
أما فقرة الصحة، فهي الوجه الآخر للمأساة؛ صورة لجسد وطن أنهكته الحرب والجوع والمرض. فالبنية الصحية انهارت، والمستشفيات تحولت إلى خرائب، والأوبئة انتشرت وسط شح كبير في الدواء.
إنها شهادة واضحة على نتائج حرب أشعلها الإسلاميون لاستعادة السلطة، فانتهت وبالاً على الشعب السوداني: موتاً في الشوارع، ولجوءًا وتشريداً وجوعاً، وبلاداً تمزقها الأوبئة كما تمزقها القنابل!
ولا يمكن قراءة التحذير الأمريكي بمعزل عن المشهد السياسي والعسكري القاتم؛ فتعنت قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في إيقاف الحرب، وإصراره على حسم عسكري مستحيل، جعلا من الخرطوم مسرحاً لمأساة وطنية تتسع كل يوم.
إن البرهان، الذي يتذرع بالسيادة والشرعية، يشكل وجوده نفسه أكبر خطر على سيادة البلاد، وسبب رئيسي في معاناة شعبها، وشريك مباشر في استمرار النزيف، إذ يرفض كل نداءات التهدئة ويغلق أبواب التسوية أمام شعب أنهكته الحرب وذبحته المعاناة!
هذا التحذير الأمريكي ليس مجرد بيان قنصلي موجه إلى المواطنين الأمريكيين، بل وثيقة سياسية تعبّر عن سقوط الدولة السودانية في دوامة الخراب.
إنه إعلان صريح بأن السودان اليوم بلد لا قانون فيه ولا أمن ولا أمان، وأن خطر الاختطاف والمرض ليس سوى عنوانين لجحيم واحد صنعته الأيدي ذاتها التي ترفع الآن كذباً شعار الدفاع عنه، بعدما أحرقت الوطن من أجل الكرسي.
تحذير واشنطن ليس موجهاً لرعاياها فحسب، بل هو إنذار للعالم بأسره من دولة تتآكل من الداخل. فالسودان الذي كان يسير بخطى واثقة نحو نور العالم، ها هو يعود اليوم إلى دائرة الظلام على يد "إخوان البرهان": وطن غارق في الدم، تحوم فوقه الغربان، ويعصف به الخذلان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة