أقصى يمين فرنسا و«العفو السياسي».. بديل أم عبء؟

بينما تستعد فرنسا لانتخابات مفصلية بالسنوات المقبلة تتجه الأنظار نحو أقصى اليمين والذي لا يخفي نواياه للقيام بخطوة قد تقلب الموازين.
فبحسب ما كشفته مصادر من الصف الأول داخل «التجمع الوطني» (أقصى اليمين)، فإن الحزب يدرس بجدية إمكانية طرح قانون عفو، أو قانون يلغى بموجبه التنفيذ الفوري لأحكام عدم الأهلية الانتخابية وذلك في حال وصوله إلى الحكم بعد انتخابات تشريعية مبكرة، بحسب صحيفة "لوموند".
وقالت الصحيفة الفرنسية إن الهدف واضح، وهو تمكين مارين لوبان، زعيمة أقصى اليمين، والمحكومة بعدم الأهلية لمدة خمس سنوات على خلفية قضية المساعدين البرلمانيين لحزبها السابق الجبهة الوطنية، من خوض سباق 2027.
ورغم أن لوبان استأنفت الحكم، ومن المنتظر أن تعقد جلسة استئناف جديدة في يناير/ كانون ثاني 2026، إلا أن حزبها لا ينتظر قرار القضاء فقط، بل يضع خططًا بديلة في حال بقيت العقوبة قائمة.
في غضون ذلك، ينظر خصومها للخطوة على أنها محاولة لـ"التبييض الذاتي"، لكنها داخل معسكر لوبان تقدم كتصحيح لـ"ظلم قضائي" يهدد المسار الديمقراطي.
عقبات القانون
ترى نونا ماير، أستاذة في علم الاجتماع الانتخابي، المتخصصة في حركات أقصى اليمين بفرنسا، أن "مقترح العفو الذي قد يقدمه التجمع الوطني، يعتبر رغبة للحزب في تجاوز العقبات القانونية التي تواجه مشاركة لوبان السياسية"، محذرة من " المخاطرة الكبيرة على المدى الطويل".
وأوضحت ماير، في حديث لـ"العين الإخبارية"، أن أي قانون يصاغ خصيصًا لتعديل وضعية شخص (في هذه الحالة مارين لوبان) ينطوي على خطر شرعي أخلاقي وقانوني.
ولفتت إلى أن "القوانين التي تسن لتعديل الأثر المباشر لحكم قضائي تلقي بظلال من الشك حول استقلالية القضاء وحياده، وقد تفهم على أنها محاولة لامتياز سياسي مخصص، ما يضعف من ثقة المواطنين في المؤسسات".
ووفقا للباحثة الفرنسية، فإن "مثل هذا القانون مادة قوية للخطاب المعادي للنظام، حيث يمكن للتجمع الوطني أن يستخدمه كدليل على أن النظام السابق أو بعض الأطراف السياسية تقف ضد إرادة الشعب".
وحذرت ماير من أن "العفو أو إلغاء عدم الأهلية سيوظف لبناء سرد الضحية والمنع من التمثيل، ما قد يعزز الدعم الشعبي بين الناخبين الذين يشعرون بأن المؤسسات نظامية أو خاضعة قبل نخبة".
مخاطر العودة العكسية
كما حذرت ماير من أن مثل هذا القانون يمكن أن ينعكس سلبًا على التجمع الوطني نفسه، خاصة إذا ما وُصِم بأنه يفرض قانونًا "حسب الطلب".
وأشارت إلى أنه في الديمقراطيات، فإن المساواة أمام القانون مبدأ مركزي؛ فإذا وافق الجمهور على رأي مفاده أن بعض الأشخاص يعاملون بمعاملة خاصة، فقد يفتح باب المطالب المماثلة من جهات أخرى، مما يضعف مبدأ العدالة ويُثير استياء عارمًا.
من جانبه، قال نيكولا ليبورج، أستاذ العلوم السياسية الفرنسي المتخصص في حركات أقصى اليمين بأوروبا، إن مشروع القانون يعتبر مؤشرًا على تحول مهم ومرحلة جديدة في استراتيجية التجمع الوطني.
واعتبر ليبورج، في حديثه لـ"العين الإخبارية"، أن تلك الاستراتيجية "تتجاوز مجرد الأداء الانتخابي إلى محاولة إعادة بناء الإطار القانوني والسياسي الذي تمارس فيه المنافسة السياسية".
وقال إن هذا المقترح لا يعنى فقط بتعديل وضعية مارين لوبان بل يعنى بإعادة صياغة القواعد التي تنظم أهلية الترشيح، والتنفيذ المؤقت للأحكام، والضمانات القانونية الأساسية في النظام السياسي الفرنسي.
ولفت الباحث السياسي الفرنسي إلى أن مقترح القانون يشكل "محاولة لفرض نفوذ تشريعي يعطي أحزابًا ذات تيار معين مرونة أكبر أمام المحاكم، مما يعيد ترتيب الصلاحيات بين القضاء والتشريع بطريقة تفضل التيارات القوية انتخابيًا".
ويشكك ليبورج في أن هذا المقترح سيستخدم أيضًا كسلاح سياسي، موضحاً أن لوبان وحزبها سيقدمان نفسيهما كمستهدفين من النظام، مفروض عليهما منع الانخراط الكامل، ومعرضين للتمييز السياسي.
وتابعت أن "هذا السرد غالبًا ما ينجح في تعبئة قواعد الناخبين، خصوصًا أولئك الذين ينظرون إلى المؤسسة القضائية باعتبارها جزءًا من المنظومة التي يتهمونها بالتحيز".
بعد دولي
بخصوص البعد الدولي والدبلوماسي للمقترح، قال ليبورج إن أي تغيير تشريعي يعتبر عفوًا جنائيًا أو تعديلًا لنظام عدم الأهلية سيراقبه الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي بعناية.
وعزا ذلك لـ"أن فرنسا تعتبر نموذجًا ديمقراطيًا يرصد سلوكها في القضايا التي تمس حكم القانون والشفافية، وأي تجاوز قد يستخدم ضدها في الحديث عن حقوق الإنسان أو الممارسات الديموقراطية".
ومضى بالقول إن ما تقدم "قد يؤثر على صورة البلاد في الخارج وعلى تعاونها في العدالة والمراقبة الدولية".
تعديل للقانون الجنائي؟
بحسب صحيفة "لوموند"، فإن الفكرة الأساسية تتمثل في إعادة تعريف طبيعة المخالفات المنسوبة إلى لوبان و25 متهمًا آخرين، بحيث لم تعد تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون.
وتابعت:" بهذا، لا يقتصر أثر القانون على لوبان فقط، بل قد يستفيد منه أيضًا حزبا الحركة الديمقراطية وفرنسا الأبية (يسار راديكالي) اللذان يواجهان شبهات مشابهة تتعلق بتمويل مساعدين برلمانيين.
وأشارت "لوموند" إلى أن فكرة "العفو السياسي" ليست جديدة على الساحة الفرنسية، ففي أواخر الثمانينيات، مرر الاشتراكيون قانونًا مشابهاً لتسوية فضائح التمويل.
لكن رد الفعل الشعبي العنيف كان سببًا في انهيارهم الانتخابي عام 1993، لذلك، يرى بعض قدامى السياسيين أن تكرار هذا السيناريو قد يُلحق ضررًا بالغًا بالتجمع الوطني نفسه.
مواقف متباينة
على القنوات التلفزيونية، دعا القاضي الفرنسي السابق جورج فانيك منذ مارس/ آذار الماضي إلى "إلغاء التنفيذ الفوري للإقصاء"، معتبرًا أن ذلك يفتح الباب قانونيًا لعودة لوبان.
أما محامي لوبان، رودولف بوسولو، فلم يخفِ اقتناعه بقوة الطرح، واصفًا العفو بأنه "إغلاق نهائي للملف".
لكن خصوم لوبان يستعيدون تصريحاتها القديمة حين كانت من أشد الداعين لتشديد العقوبات على السياسيين المتورطين في الفساد.
ففي 2012 كتبت أن "سلاح عدم الأهلية يجب أن يُستخدم بصرامة أكبر"، قبل أن تغير موقفها كليًا منذ 2015 مع اشتداد الضغوط القضائية على حزبها.
خيارات تشريعية بديلة
إلى جانب قانون العفو، هناك مساعٍ أخرى يقودها حلفاء لوبان، إذ قدم إريك سيوتي، رئيس حزب الجمهوريين المنشق عن الحزب والمتحالف معها، مشروع قانون لحذف التنفيذ الفوري من أحكام عدم الأهلية الانتخابية.
بدورهم، ألمح نواب بارزون من التجمع الوطني مثل إدويج دياز وسباستيان شونو لإمكانية إعادة طرح القانون في حال امتلاك الأغلبية البرلمانية، مؤكدين أنه "لن يخدم لوبان وحدها، بل كل السياسيين المهددين بإقصاء غير مبرر".
كما اقترح نواب آخرون إلغاء عقوبة عدم الأهلية نهائيًا من القانون الفرنسي، معتبرين أن "القضاة لا يحق لهم تقرير من يحق له الترشح ومن لا يحق له ذلك".
حسابات ورهانات 2027
في النهاية، يظل الهدف الاستراتيجي للحزب واضحًا وهو ضمان أن تبقى مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني، في السباق نحو الإليزيه عام 2027.
لكن مراقبين يحذرون من أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر، إذ إن تمرير مثل هذا القانون قد يثير موجة غضب شعبي تشبه ما حدث في التسعينيات، وهو ما قد يحول خطوة إنقاذ لوبان إلى عبء سياسي على مشروعها الرئاسي.