عنوان سكن "شكسبير" يطيح بالمشككين في كتاباته
المشككون في علاقة علاقة شكسبير بأعماله يستندون إلى أصوله المتواضعة، وافتقاره إلى درجة عالية من التعلم.
تطيح النتائج التي وصل إليها المؤرخ المسرحي جيفري مارش، مدير قسم المسرح في متحف "فيكتوريا وألبرت" المرموق في لندن، بواحدة من أشهر النظريات المشككة بأن يكون ويليام شكسبير هو كاتب الأعمال المنسوبة إليه، ولكنها لا تنهي الجدل حولها.
ويستند المشككون في علاقة شكسبير بأعماله إلى أصوله المتواضعة، وافتقاره إلى الدرجة العالية من التعلم، التي تجعله قادراً على الغوص في خفايا النفس البشرية، وبلوغ ما قدمه من تحليل عميق لفلسفة الوجود الإنساني.
ويشير هؤلاء المشككون إلى أن صراع السلطة، وقضايا السياسة، وخفايا القصور الملكية، وغيرها من المواضيع، شغلت حيزاً لا بأس به من أعمال شكسبير، من دون أن يمتلك الرجل الاطلاع الكافي على تقاليد البلاط الملكي، وطبيعة العلاقات في المجتمعات الأرستقراطية عموماً.
ويذهب المشككون بأصالة أعمال شكسبير إلى أنه كان قدم فضاءات مكانية لعدد من مسرحياته في أماكن لم يسافر إليها قط، مثل إيطاليا، بالإضافة إلى غزارة أعماله في تلك الفترة.
ورغم أن هؤلاء المشككين لم يستطيعوا تقديم أدلة ملموسة على صحة كلامهم، فإن المدافعين أيضاً اكتفوا بدحض تلك الادعاءات بأسلوب نقض الفرض، أي بالإِشارة إلى أن اعتماد سيرة شكسبير الذاتية لا يكفي للتشكيك في علاقة المؤلف الإنجليزي بالأعمال الأدبية المنسوبة إليه.
وتأتي أبحاث جيفري مارش لتقلب الطاولة على المشككين بأبوة شكسبير لأعماله، وذلك بالاستناد إلى مرجعية السيرة الذاتية نفسها، التي كانت مدخلاً للتشكيك بالمؤلف الإنجليزي.
وتُظهر الأبحاث التي أجراها المؤرخ مارش، على مدار نحو 10 سنوات، أن شكسبير عاش في ما يعرف حالياً بـ"رقم 35 شارع جريت سانت هيلين"، وهو مكان كان في تلك الفترة من أغنى أبرشيات المدينة، ويسكنه العديد من الشخصيات العامة والتجار الأجانب الأثرياء والأطباء المشرفين على صحة الأثرياء، وعدد من كبار الموسيقيين.
ويرجح المؤرخ مارش أن بعض مؤلفات ويليام شكسبير الأكثر شهرة قد تكون مستوحاة من جيرانه النخبة، الذين كان يلتقيهم في الكنيسة كل أسبوع، ويتبادل أطراف الحديث معهم، ليخلص مارش في النهاية إلى أن "المكان الذي كان شكسبير يقيم فيه يزودنا بفهم أكبر للمصادر التي ألهمته في أعماله وحياته".
ويورد جيفري مارش مثالاً يؤيد ما ذهب إليه في الحكم على مصادر شكسبير، بالإشارة إلى أن من بين جيران شكسبير في تلك المنطقة، كان الطبيب إدوارد جوردن، الذي عاش في ألمانيا وإيطاليا.
ورغم أن المؤرخ مارش لم يقدم إثباتاً على العلاقة المباشرة بين الاثنين، فإنه رجح أن تكون خبرة الدكتور جوردن ومعارفه الشخصية قد وفرت مادة لمسرحيات شكسبير وساعدته في تطوير شخصياته، فـ"السحرة الـ3 في مسرحية (ماكبث) ربما كانت مستوحاة من مشاركة الدكتور جوردين في محاكمة ساحرة معروفة باسم قضية ماري جلوفر.
وما أغفله بحث جيفري مارش، في السيرة الذاتية لشكسبير، من مصادر استلهام للكاتب الإنجليزي في أعماله الأدبية، سيورده الدكتور رشيد ياسين في كتابه "دعوة إلى وعي الذات- فصول في نظرية الدراما والنقد المسرحي"، وهذه المرة بدراسة ملامح العصر الذي ولدت فيه التراجيديا الشكسبيرية.
ويشير "ياسين" إلى أن هذا العصر "تميز بالتعطش إلى المعرفة، وبتراكم الخبرة الإبداعية، فقد بدأ شكسبير من حيث انتهى كريستوفر مارلو، واستفاد مما هيأه له عصره من أسباب الاطلاع على التاريخ والاتصال بثقافات الأمم الأخرى".
وأكد: "شكسبير ما كان ليجد المادة التاريخية الضرورية لكتابة (يوليوس قيصر) و(كوريولانوس) و(أنطونيو وكليوباترا) لو لم يجد في متناول يده كتاب (بلوتارك) عن حياة عظماء الإغريق والرومان مترجماً إلى الإنجليزية بقلم السر (توماس نورث)، وما كان ليكتب (مكبث) و(ريتشارد الثالث) وبقية مسرحياته المستمدة من التاريخ الإنجليزي، لو لم يمهد له (رافاييل هولنشيد) السبل بما كتبه عن تاريخ إنجلترا وأسكتلندا".
بكل الأحوال لن ينتهي الجدل حول أدب شكسبير وطبيعة علاقته بكل الأعمال المنسوبة إليه، بما اكتشفه جيفري مارش، وأعتقد أن الإساءة التي تصيب أدب شكسبير سببها في الغالب المتعصبون لأدبه، والذين يجعلون من مقاربة أعمال المؤلف الإنجليزي الشهير مهمة محفوفة بالخطر، كما حصل مع السير براين فيكرز، البروفسور في كلية الآداب في جامعة لندن وأحد علماء الأدب الشكسبيريين البارزين.
ووجد براين فيكرز الأزمة نفسها بسبب آرائه في علاقة شكسبير ببعض الأعمال المنسوبة إليه، لدرجة أن 3 من دور النشر الشهيرة، هي مطبعة جامعة كامبريدج، ومطبعة جامعة مانشستر، ودار بلومزبري، كانت رفضت النشر له مؤخراً، بسبب محاربته من قبل المناهضين لدراساته الشكسبيرية تلك، الأمر الذي اضطره لنشر إعلان للبحث عن ناشر لكتبه بعد أكثر من 50 عاماً، نشر خلالها أكثر من 40 كتاباً، في ملحق التايمز الأدبي، إلى جانب الإعلانات الخاصة بالمنح المالية وبيوت المزارع لتأجيرها، بحسب الإندبندنت البريطانية.
السير براين فيكرز كان أجرى منذ أكثر من عقد من الزمان بحثاً يعتمد في تشريح النصوص، والتحليل التقليدي للمفردات والأسلوب وبناء الجملة، على برنامج حاسوب لاكتشاف العبارات المتكررة والصور يعرف باسم: "Plagiarism-Detection Software"، وكان واحد من النتائج التي خلص إليها الرجل، استنتاج جريء مفاده أن المسرحي الإنجليزي توماس كيد، أحد أكثر الكتاب تأثيراً في الدراما الإليزابيثية، كان أيضًا مؤلفاً لثلاث مسرحيات مجهولة، بينها مسرحية "إدوارد الثالث".
ويرى السير براين فيكرز أن مسرحية "إدوارد الثالث" كانت نتاج تعاون بين شكسبير وثوماس كيد، مشيراً إلى أن التعاون الكتابي هذا كان سمة تلك الفترة الأدبية، الأمر الذي تؤكده لوري ماجواير، الأستاذ بجامعة أوكسفورد في حديث لـ"بي بي سي" بقولها إن "أغلب المسرحيات التي كتبت في هذه الفترة الزمنية تعود لأكثر من كاتب واحد".
"ماجواير" كانت هي الأخرى أجرت دراسة بالمشاركة مع إيما سميث، من كلية اللغة الإنجليزية بجامعة أوكسفورد في بريطانيا، خلصت إلى أن الكاتب المسرحي الإنجليزي "توماس ميدلتون"، شارك شكسبير في كتابة مسرحية "العبرة بالخواتيم".
وإلى جانب التعاون الكتابي مع أبناء عصره من كتاب المسرح، كانت الدراسات النقدية أكدت استلهام ويليام شكسبير لموضوعات أعماله، من التاريخ أو من الروايات الأدبية ومن الأعمال المسرحية، إضافة إلى المصادر الشفاهية التي تؤكدها اليوم أبحاث المؤرخ المسرحي جيفري مارش، مع الإشارة إلى أن أيا من تلك الأعمال لم تتحدث عن سرقة أدبية لشكسبير، باستثناء البعض، وظلت الغالبية تميز طبيعة الاستلهام في النص الشكسبيري وأصالة الشكل والمضمون اللذين يعودان له، ولم يثقل على رؤاهم تلك إلا عشاق المؤلف الإنجليزي الذي كانوا ملكيين مثل الملك نفسه، ولا أقول أنهم كانوا ملكيين أكثر منه، وإلا لماذا وصلتنا مؤلفات شكسبير وظل الجدل حول مؤلفها حتى الآن؟.